من وحي السيرة النبوية : واثقون بأنفسهم\

بقلم : د. فاطمة يعقوب خوجة

الرجال الذين قادوا الإنسانية بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هم تلك الكوكبة الرائعة من طلائع الدنيا المؤمنة، الذين صُقِلوا بالقرآن الكريم، وأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم- في المسجد وقت السلم، وفي الميدان وقت الجهاد- فتربوا على يديه صلى الله عليه وسلم، واقتدوا به؛ فكان أثر التربية النبوية واضحًا في الثقة بأنفسهم.

تلك الثقة التي انبثقت من إيمان راسخ بالله، وإلمام وعلم بربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، فظهرت في أقوالهم وأفعالهم وشخصياتهم، وصاغتها بصبغة العظمة.. والخلود.

فهي التي جعلت عثمان بن مظعون- رضي الله عنه – يردُّ جِوار الوليد بن المغيرة في مكة، ويعلل ذلك بقوله:

«والله إن غدوّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لا يصيبني، لقد رضيت بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره».

وهي الثقة بالنفس ذاتها التي حاور بها ربعي بن عامر- رضي الله عنه- ذو الأسمال البالية، قائد الفرس رستم بديباجه وحريره، فقال – في الإجابة عن سبب مجيء المسلمين إلى الفرس-:

«إن الله اختارنا؛ ليُخرج بنا من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فمن قَبِلَ ذلك منا ، قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى، قاتلناه حتى نُفضي إلى موعود الله».

خصائص الواثقين بأنفسهم

يتميز الواثق بنفسه بالإيمان بمبادئه وأهدافه الواضحة، وبموافقة أعماله لأقواله، و بقدرته على ضبط نفسه، والتحكم بمشاعره السلبية، كما يتسم بالمبادرة، والقدرة على اتخاذ القرار دون تردد، والشجاعة في طرح أفكاره حتى لو كانت خيالية.

ومن صفاته تحمل المسؤولية عند قيادة المجموعة، والاهتمام بأفرادها، والإشادة بجهد الآخرين، وإقرار رأي الأغلبية، والعناية بالقيم والأخلاق.

والرسول صلى الله عليه وسلم هو النموذج الكامل للشخص الواثق بنفسه، وما موقفه يوم الهجرة مع سراقة بن مالك- رضي الله عنه- إلا تجسيد واضح لثقته بربه ثم بنفسه، تتمثل في قوله:كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى!!

تعد هذه المقولة في ميزان الواقع من وهم الخيال!! إذ كيف برجل مطارد من قومه.. ومهاجر ينتظره مستقبل مجهول، أن يعد بهذا الوعد؟

إن قوة عقيدته وإيمانه بربه منحته صلى الله عليه وسلم ثقة بنفسه، وتصديقًا لموعود ربه، وهي التي دفعت تلميذ النبوة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-، أن ينادي على سراقة حين وضعت نفائس فارس بين يديه، ويلبسه سواري كسرى؛ تنفيذًا لوعد نبيه صلى الله عليه وسلم.

كيف نمى الرسول صلى الله عليه وسلم الثقة بالنفس عند أصحابه؟

سؤال طرحته على نفسي، وبحثت عن إجابته، وفي أثناء رحلة البحث اطلعت على بعض الدراسات النفسية الحديثة لدعم الثقة بالنفس، والتي أوصت المربين بالبعد عن اللوم والتقريع والتجريح، والإشادة بالإنجاز، ودعمه بالمدح الإيجابي، والتقليل من النقد… وغير ذلك من الوصايا، التي تعد في جملتها وكأنها تعبِّر عن الأسلوب التربوي الذي اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أصحابه، فرأيت أن أٌقلِّب معكم صفحات السيرة النبوية ، وأدعم قولي بالشواهد التاريخية.

المدح الإيجابي: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم».

لقد حرَّر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقولة طاقات أصحابه، وأخرج كنوز الإيمان من نفوسهم، ونمَّى روح العمل والتضحية لهذا الدين لديهم، فبزغوا في كل أفق، وأثبتوا أنهم نجوم يُهتدى بهم إلى يومنا هذا.

ترك اللوم والانتقاد: يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:

«خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما أعلمه قال لي قط لم فعلت هذا! ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا! ولا عاب عليَّ شيئًا قط!! وما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني!!».

على هذا التعامل الراقي لازم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، وتعلَّم منه وتلقَّى عنه، حتى غدا بحرًا من بحور العلم، قيل عنه يوم مات: ذهب اليوم نصف العلم!!

الاحترام: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحترم أصحابه، ويحترم حقوقهم حتى في الحديث والمجلس، ومن تلك المواقف التربوية الرائعة استئذانه من الغلام الذي عن يمينه، حين أتي بشراب فشرب منه، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء!! إذ كان الشيوخ عن يساره.

وتظهر ثقة الشاب بنفسه وهو يقول: لا يا رسول الله، والله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا. فوضع رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ الإناء ‏في يده.

التدريب على مهارة التخطيط: حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن سأله:«بم تقضي يا معاذ؟» فأجابه قائلاً: «بكتاب الله».

قال الرسول: «فإن لم تجد في كتاب الله»؟ قال: «أقضي بسنة رسوله».

فقال الرسول: « فإن لم تجد في سنة رسوله»؟ قال معاذ: «أجتهد رأيي، ولا آلو».

فتهلل وجه الرسول وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله».
ولعل هذه التربية النبوية مكَّنت معاذًا من ثرائه الفقهي حتى صار أعلم الناس بالحلال والحرام.

المساعدة في اتخاذ القرار عبر الحوار الإيجابي:اندفع شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنى، فأدناه منه وقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا. قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم».

قال: أفتحبه لابنتك؟ لأختك؟ لعمتك؟ لخالتك؟

في حوار طويل والشاب يرد: لا يا رسول الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يعقب على إجابته قائلا: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، «لأخواتهم»، «لعماتهم»، «لخالاتهم».

فتأثر الشاب تأثرًا حقيقيًا، فلم يعد يلتفت إلى الزنى ودواعيه بعد ذلك، لقد أقنعه صلى الله عليه وسلم إقناعًا عقليًا وعاطفيًا دون أن يهز شخصيته بالزجر والتقريع.

التشجيع على السباحة والفروسية والقتال: يقع نظر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فيشجعه على مهارته بقوله: «ارم سعد، فداك أبي وأمي».

وتمضي الأيام.. وتأتي أيام القادسية.. فيختاره الفاروق ليرمي به الفرس المجتمعين في أكثر من مئة ألف من المقاتلين المدربين.. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. فيفتح المدائن، ويطفئ النار المعبودة في فارس إلى الأبد.

الإعلان عن الحب: أحبّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حبًا عظيمًا، وعبّر عنه باللفظ والقول في مواقف كثيرة، سطرتها صفحات السيرة، ومن ذلك قوله:«أنتم مني، وأنا منكم» ، «لو سلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار»، «لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلًا».

«إذا أحبَّ أحدكم أخاه فليعلمه إياه».

وكان لهذا الحب أثره في ثقتهم بأنفسهم، فتجردوا من الأنانية والأثرة، وساد العفو والتسامح بينهم.

التشجيع على توجيه الأسئلة، والإجابة عنها: في العديد من المرويات سؤال يطرحه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه؛ يستحث تفكيرهم ويوسع آفاق مداركهم، كسؤاله لمعاذ: «ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟».

وفي موقف آخر يقول: «ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟».

كما كان يولي عنايته لأسئلتهم ويجيب عنها، كل ذلك زاد ثقتهم بأنفسهم وزاد حبهم لطلب العلم.

التدريب على العمل ضمن فريق: ما أكثر المواقف التي عزز الرسول صلى الله عليه وسلم ثقة الصحابة بأنفسهم في غزوة الخندق، فالفكرة التي انبثقت من سلمان الفارسي، استحسنها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فشدوا العزم، واشتركوا جميعًا في الحفر.. وفي التعب.. وفي الجوع.. حتى تحقق النصر.

الإشادة بالمواهب والقدرات: ذات ليلة، سمع النبي صلى الله عليه وسلم قراءة أبي موسى الأشعري للقرآن، فلما أصبح قال له مشيدًا بجمال صوته: «قد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود».

ومنذ ذلك اليوم أخذ أبو موسى نفسه على قراءة القرآن وفهمه والعمل به، حتى أصبح موضع تقدير الصحابة جميعًا.

التدريب على مهارة إبداء الرأي: يسأل عبد الله بن مسعود كيف بك يا عبدالله، إذا كان عليكم أمراء يضيعون السنة، ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها؟

أسلوب تربوي يعطي المتلقي الجرأة على إبداء رأيه دون تملق أو ضعف، ليسلك ابن مسعود بعد وفاته صلى الله عليه وسلم سلك التعليم، وينهج مع تلاميذه هذا النهج، فلم يقتصر في درسه القرآني على الإقراء والتفسير، وإنما بصَّرتلاميذه بطرق استنباط الأحكام.

التدريب على الاستثمار: جاء رجل يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الفقر، فأعطاه عليه الصلاة والسلام درهمين وقال له: «اذهب فاشتر بأحدهما طعامًا، وبالآخر فأسًا، واحتطب به وبع».
فغاب الرجل خمسة عشر يومًا ثم أتى فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيما أمرتني به، فقد اكتسبت عشرة دراهم، فاشتريت لأهلي بخمسة طعامًا وبخمسة كسوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا خير لك من المسألة».

الثناء على الإنجازات: في غزوة مؤتة، وبعد مقتل القادة الثلاث، اختار خالد بن الوليد الانسحاب من المعركة، فعيّرهم المسلمون حين رجعوا إلى المدينة، وقالوا لهم: أنتم الفرارون!!

فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل أنتم الكرارون.

لقد أثنى على الجهد بغض النظر عن النتيجة، وهذا عامل رئيس في غرس الثقة في النفس.

التدريب على فهم التعليمات: وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه المتجهين إلى بني قريظة بقوله:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة».

وخرج الجيش، فلما حان وقت الصلاة، انقسموا إلى فريقين، فريق صلى في الطريق، معللًا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على الإسراع، أما الآخرون فلم يصلوا وذهبوا إلى بني قريظة ثم صلوا العصر هناك.

ولم يخطئ النبي صلى الله عليه وسلم أيًا من الفريقين، لأن اختلاف العقول ثراء، وإذكاء لخاصية الاجتهاد الذي تميز به الفقه الإسلامي.

التدريب على الاعتماد على النفس: كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لأصحابه في الاعتماد على النفس، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل ما يعمله الرجال في بيوتهم.

وسلك الصحابة مسلكه صلى الله عليه وسلم، فطرحوا الكسل جانبًا، وانبروا إلى العمل.. فرسانًا بالنهار.. رهبانًا بالليل.. ثقة وحسن ظن بخالقهم.

التدريب على القيم والمبادئ: دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- «مكة المكرمة» فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة،وقد امتلأت قلوبهم رعبًا وهلعًا، وهم يفكرون في حيرة وقلق فيما سيفعله معهم بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم، إلا أنهم عفا عنهم عفوًا عامًا بقوله: «لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء».

العفو والصفح خلق أصيل عند الواثق بنفسه..

الاهتمام بالأحلام والطموحات: سأل ربيعة الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة!! فلم يسخر من طموحه، بل أرشده إلى الطريق المحقق له بقوله: «أعني على ذلك بكثرة السجود» – يعني الصلاة.

هذا غيض من فيض مواقف تربوية نبوية، داعمة للثقة بالنفس، أوردتها في عجالة؛ لنصحح خطابنا التربوي مع الناشئة ، لنحقق لأمتنا مستقبلاً مشرقًا، ولأبنائنا حياة ناجحة سعيدة.