مهندسون وأطباء فقط .. لماذا هجَر الإسلاميون دراسة العلوم الإنسانية ؟!”

بقلم / أحمد محمود

– دا عنوان مقال منشور على موقع “ميدان” من كام يوم، وخلاصته بتدور حول نفس الفكرة بتاعة عزوْ فشل الإسلاميين في مشروعهم السياسي لسبب إن أغلبهم كانوا خريجي كليات هندسة وطب وعلوم مادية، ومحدش فيهم ركز في العلوم الانسانية من فلسفة واجتماع وخلافه، مع نفس الإقتباس لنفس مصادر ترديد هذه تلك الفكرة بلا أي جديد في الطرح.

طيب، بنعتذر عالإطالة مقدما، لكن الموضوع ده مهم، وخلينا نبدأ بسؤال إفتتاحي:

“هل فيه شخصية سياسية من صناع القرار فى العالم المخالف لينا فكريا والمهيمن علينا اقتصاديا و ماديا، سواء رئيس حزب أو رئيس وزراء … دكتور أو مهندس ؟”

– نعم موجود؛ بنيامين نتنياهو أطول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل، مهندس معماري وعمل بكالوريوس وماستر في MIT .. أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، دكتورة كيمياء فيزيائية، وفعلا القائمة تطول لأمثلة من هذا النوع.

– عشان الدنيا توضح شوية خلينا نسأل سؤال: هل لما بنتكلم عن التيار الإسلامي -في منطقة زي الشرق الأوسط مثلا وفي القلب منها مصر- هل بنحكي عن نموذج لدولة تأسست وفق مفاهيم هذا التيار الفكرية ؟؟ ولا بتتكلم عن تيار رغم طول تاريخه النسبي إلا أنه ظل محصورا في نطاق أيديولوجيا يعتنقها حشد واسع من شعوب العرب دون أن تظهر لها تجربة دولة حقيقية يمكن تقييمها بشكل فعلي (وأظنك لا تعترف بالسنة الطشاش بتاعة حكم مرسي) ؟!!

– ظني ان الاجابة الأقرب للصحة هي الثانية، إن الاسلاميين على مدار تاريخهم مكانش ليهم وجود في شكل دولة مؤسسة أصلا بقواعد راسخة بحيث تقدر تشوفها بوضوح خلال فترة زمنية محددة، ومنذ سقوط الخلافة لغاية دلوقت تقريبا ده محصلش. ونموذج زي السعودية أو إيران مالوش علاقة بما أعنيه لأن الفكرة موضع النقاش هنا هي حالة الإسلاميين الحركيين السنّة في بلاد الشرق الاوسط.

– تمام ؟؟، يبقى انت لسه مع ناس أكتر شبيه ليهم من التاريخ هم يهود القرن التاسع عشر قبيْل تأسيس الدولة، الناس دي بقى مفحوتة طول مشوارها الفكري والسياسي كله وطالعة من نقرة واقعة في دحديرة بشكل متواصل، ألف باء إنهم يقدروا يكملوا في مشوارهم ده يتمثل ببساطة في إن المصادر المادية لاستمرار وجودهم تكون متاحة قدر الإمكان. فطبيعي – زي أي مجتمع “بدائي” لسه لم يصل لحالة قيام دولة فضلا عن وصول تلك الدولة لمرحلة تكوين الحضارة – أول حاجة لازم يفكروا فيها إنهم إزاي يعرفوا يعيشوا أساسا، ولما يكونوا بيتحاربوا بكل الطرق والاشكال فلازم مسألة إنهم يفضلوا عايشين ماديا تكون أكثر حرَجا لانها مهددة طول الوقت … لجوء أغلب إسلاميي القرن الماضي وكتير من الحاليين لدراسة العلوم المادية هو تصرف بديهي ومنطقي لتيار لا يمكن كان هيقدر يأمّن مصدر نفوذ مادي ليه بدون إستغلال تلك المساحة اللي غفلت عنها أنظمة الحكم لأغلب الوقت واستطاع الاسلاميون يستغلوها بشكل كبير وكانت عاملة ليهم بنية تحتية صلبة دعمت توغلهم الفكري فيما بعد داخل المجتمع.

– خلينا نسيب حالة الاسلاميين مؤقتا ونروح لأي دولة “عظمى” ظهرت في التاريخ “الحديث” بما فيها أمريكا، براعة شعوب تلك الدول في العلوم المادية من طب وهندسة ورياضيات وفيزياء وخلافه كانت هي السبب اللي خلاهم بعد كده يركزوا في مساحة العلوم الاجتماعية، ومرة تانية انا محدد كلامي في دول العصر الحديث، عشان مثال الاغريق واليونان وأرسطو والليلة دي ميبقاش ليه علاقة بكلامي … أمريكا مراحتش عملت مراكز دراسات وأبحاث ودعم اتخاذ قرار عينها على كل خرم إبرة بالعالم إلا لما راحت عملت الاول قنبلة ذرية وخاضت حرب عالمية وجابتها عاليها واطيها بالقوة المادية، تصرف منطقي وبديهي جدا يا صديقي، عمرك ما هتقعد تركز في الفلسفة والاجتماع وتأريخ الأفكار وانت مافيش في جيبك ولا مليم فضلا عن إن لقمتك تكون بإيد واحد عاوز يقطعك حتت، مافيش حد سليم هيفكر كده، بل حتى لو رُحت للحضارات القديمة كلها فدايما مراحل النضج الفكري والاجتماعي بتيجي بعد مشوار طويل من الصراع العسكري والمادي اللي بدوره بيشجع الناس تركز أكتر في المادة قبل أي شئ.

– ناهيك عن إن البراعة المادية -وفقط المادية- فيما بعد بتكون مؤثر مباشر في مسألة صنع القرار، النهارده شركة زي آبل ولا أمازون وأخواتها يقدروا عادي يأثروا على الحكومة الامريكية بشكل أسهل بكتير من واحد مفكر زي أستاذ ناعوم تشومسكي. ميركل لما رفضت زيارة السيسي عشان حقوق الانسان والحرية والذي منه= رئيس سيمنز قالها هنسرح 15 الف موظف لو الراجل ده مجاش ووقعنا معاه صفقة التربينات، والسيسي جه ألمانيا وعمل الصفقة والدنيا اتلمّت .. فقشطة المهندس كلمته مشيت عالمستشارة عادي !!

– فبالرجوع للنقطة الرئيسية= هتلاقي إن المصدر الوحيد اللي ساعد الاسلاميين على طول النفَس في صراعهم الطويل فكريا وسياسيا كان إنّ ليهم وجود “مادي وليس تنظيري”، انت زمان لو مفكر إسلامي وعاوز تنشر كتاب “إسلامي”= فاللي كان هيرضى يطبعه ويوزعه هو المهندس “الإسلامي” اللي عنده مطبعة أو علاقات تخليك تطبعه وببلاش تقريبا، وخد عالمثال ده حاجات أكثر عمقا وتعقيدا خصوصا في مجتمعات الإسلاميين اللي كانت مقفولة على نفسها زي الاخوان مثلا، ولغاية دلوقت بالمناسبة نسبة كبيرة من نظم التكافل والتمويل بصوره المختلفة الموجودة داخل الوسط الاسلامي سببها ان إسلاميين كتير شغالين في وظايف مستريحة ماديا ومسافرين برا مصر من عشرات السنين وعايشين كويس وشايلين كتير من اخوانهم المعتقلين وخلافه، دول لو كانوا “مفكرين وفلاسفة”= كان زمان الوضع هيبقى أشد بؤسا والله من دلوقت، بس انت مش مادد الخط على استقامته وإلا هتشوف أزمة كبيرة جدا لو كان الكلام اللي في المقال ده اتنفذ … أنا أفهم جدا حكاية انك “كناقد” تطالب الاسلاميين بضرورة تكوين “نخبة فكرية” دارسة كويس علوم سياسية واجتماعية ومتوفر لها الدعم المادي الكامل لتحقيق ذلك زي حالة طلاب العلم الشرعي في أوساط السلفية العلمية مثلا، بس المقال ده مش بيتكلم عن تكوين نخب، دا بيكلمك عن تكوين قواعد شعبية من خريجي آداب وحقوق، وده منتهى الانحطاط والخسران خصوصا في ظرف محنة كالحالي !!

– نقطة تانية لا تقل أهمية: التحول لدراسة العلوم الانسانية بعد دراسة متخصصة لعلم مادي أمر سهل، العكس هو الصعب لدرجة تصل للإستحالة أحيانا … أنا ممكن أبقى دكتور ولا مهندس وأخلص دراسة وأروح اخش كلية آداب ولا أدرس فلسفة ولا حتى أروح أطلب علم شرعي، وخد عندك أمثلة لا تحصى على هذا الامر، انت كمهندس مخلص بكالوريوس وماستر في هندسة الاتصالات هتمسك كتاب “هكذا تكلم زرادشت”= هتفهمه وهتكوّن رأي حواليه وهتناقش غيرك فيه وقشطة هترجع تكمل شغلك كمهندس اتصالات، انما لو كنت خريج آداب فلسفة واديتك كتاب signals and systems فأظن الموضوع مكانش هيقى بنفس السهولة كما في الوضع الاول .. وصدقني والله لو كان اغلب الاسلاميين دراسي علوم إنسانية وإجتماعية وحصل ما حصل= كان أول حاجة هيتم نقدها هو إزاي الاسلاميين ابتعدوا عن العلوم ذات الشان المادي وإزاي معندناش المهندس المسلم والطبيب المسلم !!، يعني كنا هنلفّ نفس الدائرة بس بالعكس !

– معلومة لطيفة عرفتها مؤخرا: الاستاذ عزت بيجوفيتش الله يرحمه حكَم البوسنة لسنتين، ورغم ثقله الفكري (ولو من وجهة نظر العرب عالاقل)= إلا أنه لم يضِف تأثيرا يذكر لدولة البوسنة، وأغلب الناس هناك بيتعاملوا معاه زي ما احنا بنتعامل مع رئيس مصر صوفي أبوطالب بالكتير !!

– فالشاهد: ثغور الإسلام الحالية على مستوى قواعد الإسلاميين مازالت هي العلوم المادية من هندسة بجميع أنواعها وخاصة هندسة التقنية وكذلك الطب والإقتصاد، ومساحة العلوم الإنسانية المفروض لا تزيد عن تكوين نخب من كام فرد … أيوا لسه عاوزين الطبيب المسلم والمهندس المسلم والداتا ساينتست المسلم .. نيتشه المسلم وهيدجر المسلم وكانط المسلم دول بعدين إن شاء الله لما نلاقي ناكل ونقف على رجلينا الأول، لو فيه علوم إنسانية محتاجينها على مستوى جماهيري حاليا فهي العلوم الشرعية وإجادة اللغات الأجنبية وتركيب الكوميكس بشكل كرييتف، والله المستعان.