نصر أكتوبر ماذا تبقي منه

خاض المصريون مع الصهاينة أربعة حروب كبري أعوام: 1948م، 1956م، 1967م، و 1973م، في الحرب الأولي عام 1948 وصل الجيش المصري إلي أسدود علي مشارف تل أبيب، ثم حدث التآمر ووقعت الخيانات التي أدت إلي هذه النكبة الكبيرة للأمة العربية والإسلامية، وتشتت الشعب الفلسطيني، وغرس الخنجر الصهيوني في خاصرة الأمة، واعترف الغرب بدولة الكيان العنصري الغاصب، وفي حرب عام 1956م كان مشهد الصمود الحقيقي للمقاومة الشعبية المشرفة، وفي عام 1967م كانت الهزيمة المدوية، والفاجعة الكبري التي هزت وجدان العرب والمسلمين في كل مكان، وخلفت الجيش المصري حطاماً، وسيطرت إسرائيل علي سيناء والجولان، ومكنت إسرائيل من بسط نفوذها وسطوتها علي المنطقة، وراجت أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر، وعاشت الأمة العربية والإسلامية أسوأ فترة في تاريخها الحديث، حيث سادها الشعور بالذل والعار والانكسار، ثم كانت حرب الاستنزاف التي وصفت بأنها حالة اللاحرب واللاسلم، ثم جاءت حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر التي حقق فيها الجيش المصري نصراً علي الصهاينة لأول مرة منذ قيام إسرائيل.

وبغض النظر عن الجدل التاريخي حول كون نصر أكتوبر نصرأً كاملاً حقيقياً استراتيجياً بقرار وطني حر خالص، أم كان نصراً تكتيكياً مهندساً وضعت خطوطه الحمراء وحدوده ومعالمه قَبْلَ المعركة بواسطة القوي العظمي وعلي رأسها أمريكا بهدف الضغط علي إسرائيل للقبول بالرؤية الأمريكية التي كانت تهدف لتحقيق سلام يتيح لإسرائيل الاندماج في محيطها، ويقلل الكلفة التي يتحملها الغرب لمساندة إسرائيل في محيط يناصبها العداء، وهو ما كانت ترفضه إسرائيل في ذلك الوقت مدفوعة بغرور القوة، ومستندة إلي ضعف العرب وتشرذمهم، ومتذرعة بحماية الغرب وتدليله الزائد لها.

فالهدف من الحرب وفق هذا التحليل التاريخي تحقيق نصر جزئي للجيش المصري يكون خطوة لتهيئة الفرصة للسلام من المنظور الغربي بما يحقق أمن إسرائيل ويرسخ للمشروع الغربي علي المدي الطويل، فالنصر يعيد للجيش المصري بعض سمعته التي خسرها، ويجعل من القيادة المصرية رمزاً للعروبة والقومية، وبطلاً للحرب تمهيداً للمقصود الأساسي لجعله بطلاً للسلام المنشود وفق الرؤية الغربية، وفي نفس الوقت يجبر إسرائيل علي القبول – ولو مرحلياً- بهذا الطرح الذي كانت ترفضه وتقاومه. وبغض النظر عن هذا كله هل تبقي شيء من نصر أكتوبر الذي صنعه الجندي المصري بالعرق والدم؟. إن المدقق في السياق التاريخي لحرب أكتوبر وما قبلها وما بعدها يلاحظ الكثير من الحقائق الهامة منها:

أولاً:

أن الجندي المصري القادم من عمق المجتمع كان دائماً متفوقاً علي قيادته، سواء في حبه للوطن، أو في استعداده للتضحية، أو في رغبته مواصلة الكفاح حتي القضاء التام علي العدو، أو تحقيق نصر حاسم يجبره علي الاستسلام، وأن المشكلة دائماً في كل حروب الجيش المصري مع الصهاينة كانت تأتي من ناحية القيادة، أو من بعض القيادات، سواء بالخيانة والتآمر، أوالتخاذل والتقاعس، أو ضعف الكفاءة، أو إهمال الاستعدادات القتالية والروح المعنوية للجنود. وقد شاعت في أدبيات الحروب المصرية مقولة :لقد فاجأ الجندي المصري قادته” أي أن مستواه وأداءه القتالي كان أعلي من المستوي الذي توقعه قادته وأعدوه له، وأعلي من مستوي توقع الأعداء وما رصدوه. وبالتالي فإن الاهتمام بالجندي من جميع النواحي يمثل الركيزة الأساسية لإصلاح المنظومة العسكرية.

ثانياً:

أن انغماس الجيش في الشأن السياسي كان السبب الرئيسي للهزائم، لأن نتيجته الطبيعية إهمال المستوي القتالي والاستعداد العسكري من ناحية، وضعف الجبهة الداخلية وتشتتها من ناحية أخري، كما يؤدي إلي فتح ثغرات للعدو لاستغلالها والنفاذ منها في ظل مناخ الاستقطاب السياسي وانخراط الجيش فيه من ناحية ثالثة، ومن ثم فإن الركن الثاني في إصلاح المنظومة العسكرية هو خروج الجيش من الحياة السياسية والاقتصادية وتفرغه لمهمته الأساسية في حماية الحدود وحفظ التراب الوطني، وترك السياسية للسياسيين، والاقتصاد للاقتصاديين.

ثالثاً:

أن إهمال الروح المعنوية يؤدي للهزيمة والاهتمام بها يعد أحد أبرز أسباب النصر، وخاصة الروح المعنوية ذات الإساس الإيماني العقيدي؛ فهي من أقوي البواعث علي التضحية والفداء، ومن أكبر العوامل المحققة للشجاعة ورباطة الجأش والثبات في الشدائد، والمعينة علي الصبر و الصمود وقوة التحمل وطول النفس، والمقارنة بين التربية العسكرية قبل حرب 1967م وقبل حرب 1973م يوضح الفرق جلياً، ويؤكد هذه الحقيقة بوضوح؛ فبينما كان الجنود قبل حرب 1967م ينامون ويستيقظون علي أغاني العندليب، كان الجنود قبل حرب 1973م يعيشون في معسكرات التوعية والتربية التي يشارك فيها كثير من العلماء الفاقهين أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ حافظ سلامة وغيرهم ممكن كانوا يقضون وقتاً طويلاً بين ضباط وجنود الجيشين الثاني والثالث الميدانيين، لشحذ الهمم، وغرس روح الفداء والتضحية، وتوعية الجنود بطبيعة العدو، وطبيعة المعركة، وهكذا يكون الإعداد لمن أراد تحقيق النصر والحفاظ علي ثمراته.

رابعاً:

أن النصر إذا لم يتم استثماره والبناء علي نتائجه فإنه يتحول إلي هزيمة، وهذا ما حدث مع نصر أكتوبر؛ فمن المعروف أن أبرز التحولات التي فرغت نصر أكتوبر من محتواه هي معاهدة كامب ديفيد التي أبقت سيناء بلا سيادة مصرية حقيقية قرابة نصف قرن، وكأن إسرائيل التي اقتطعتها من مصر بالحرب في عام 1967م، أرادت أن تبقيها شكلياً تحت الإدارة المصرية حتي تتهياً الفرصة لاستعادتها أو استغلالها بصورة أو بأخري من قبل إسرائيل، وهذا ما ترمي إليه صفقة القرن التي بدأت معالمها تتكشف في الآونة الأخيرة، باقتطاع جزء من سيناء ليكون وطناً بديلاً للفلسطينيين، وكان الحديث عن تبادل الأراضي بين مصر والكيان الصهيوني يجري سراً منذ سنوات كما كشف عن ذلك مؤخراً وزير الخارجية السابق أحمد أبو الغيط.

خامساً:

أن التفريط في أرض الوطن ليس فقط إهداراً لدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عنها، ولكنه أيضاً تفريط في السيادة والكرامة الوطنية، وتدمير لأسس البناء الحضاري الذي يقوم علي ثلاثية: (الإنسان – الأرض – الثروة). وبعد هذه الحروب التي خاضتها مصر دفاعاً عن أراضيها وثرواتها وحق أبنائها في الحياة جاء الانقلابيون ليفرطوا في ذلك كله، فتنازلوا عن جزيرتي تيران وصنافير شكلاً للسعودية وجوهراً للكيان الصهيوني الذي يعد المستفيد الأكبر من تدويل هذا الممر المائي الاستراتيجي، بهذه الخطوة الماكرة، كما تنازل الانقلابيون عن ثروات مصر من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط لصالح قبرص واليونان وإسرائيل، وتنازلوا عن حق مصر التاريخي في مياه النيل بعد توقيع قائد الانقلاب علي الاتفاقية الإطارية التي يعترف فيها بحق أثيوبيا في بناء سد النهضة دون أن تتناول حقوق مصر من المياه.

سادساً:

أن الانسلاخ من المبادئ التي قامت عليها الحرب، والتنكر لدماء الشهداء هو عين الهزيمة، فماذا نقول للجندي الذي حارب الصهاينة في 1973م بعقيدة قتالية راسخة لا تري عدواً في المنطقة إلا إسرائيل، بعد أن عمل قادة الانقلاب الحالي علي تغيير عقيدة الجيش المصري، وإعادة تعريف العدو، فأصبحت إسرائيل عندهم صديقاً حميماً، وأضحت المقاومة الفلسطينية في نظرهم عدواً لدوداً، وتوجه السلاح المصري لأول مرة في تاريخها إلي صدور المصريين العزل المطالبين بالحرية والكرامة، الرافضين للظلم والاستبداد والطغيان، في ميادين مصر وساحاتها وشوارعها، بعد أن كانت وجهته الفذه هي صدور الأعداء في ميادين القتال.

سابعاً:

أن الحفاظ علي النصر لا يقل أهمية عن تحقيقه، ومن أهم ثمرات النصر التي يجب أن ينعم بها الشعب المنتصر هي الحرية والكرامة والعدالة، فالشعوب تحارب من أجل الحرية والكرامة فإذا لم يتحقق منهما شيء فلماذا الحرب ولماذا يتحمل الشعب كلفتها ومغارمها؟ والنصر الذي يكون مصحوباً بسحق الإنسان بالاستبداد والطغيان، والتفريط في أرض الوطن وثرواته، والتنازل عن سيادته ليس نصراً، فماذا تكون الهزيمة إذن؟!!!!