بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه ، أما بعد ،.

فإن الطغاة الظالمين المفسدين في الأرض من أهل الباطل وهم في صراعهم الأثيم مع أهل الحق ومع الحق نفسه لا يحجزهم عن الفجور في الخصومة ورع ولا دين ولا يمنعهم في الإغراق في الظلم عقل ولا خلق ولا يتقيدون في ممارسة ظلمهم بقانون ولا عرف بل هم يمضون في همجية بربرية يدمرون الأخضر واليابس، ويبيعون الأوطان والثروات ويهددون الناطق والساكت، ويقتلون ويسجنون ويشردون المجاهد والقاعد ظناَ منهم أنهم يمكن ان يقتلعوا الحق من الحياة وان يجتثوا جذروه من قلوب الناس وهيهات فكلمة الحق أصلها ثابت وفرعها في السماء

وأمام ثبات المؤمنين الأحرار فإن أولئك الطغاة يتفنون في ألوان الخداع بين الإغراء الكاذب والتهديد الفاجر حيث يدركون أن ثبات أهل الحق شيباَ وشباناَ هو العقبة الكؤود أمام باطلهم الخبيث فيسعون بكل خبث لدفع أولئك الأحرار إلى التفريط في هذا الثبات وإلى التزحزح عن القمة التي بلغوها بثباتهم ” ودوا لو تدهن فيدهنون”

ولا يترددون في العمل الدؤوب على استغلال بوادر الضعف البشري التي قد تلوح من البعض تحت ضغط المحنة وقسوة المواجهة وفجور الخصومة وطول الطريق
وامتداد المعركة أملا في زحزحة المؤمنين نحو السفح شيئاَ فشيئاَ وتكون بداية الزحلقة نحو القاع بطلب التوقيع على ما يسمونه ” ورقة المصالحة ” وهي أجدر
أن تسمى “الزحلقة” أو ” الإستدراج ” حيث تهدف في الحقيقة إلى إسقاط الذي يوقع عليها في هاوية الخيانة لدينه ولدعوته ولاخوانه بالتدريج.

فيكون الاغراء في البداية بأنها مجرد توقيع تنال به حريتك ويُرفع به عنك بعض الظلم فاذا قام بالتوقيع بدأت خطوات الشيطان يتبع بعضها بعضا بطلب العمل بدعوة الآخرين للتوقيع، ثم كتابة تعهدات جديدة وتبرؤات من الدعوة وأهلها، ثم الإرشاد عن اخوانك الرافضين لهذا السقوط والمخذرين من هذا الإستدراج إلى آخره…

وهكذا يجد الإنسان نفسه مسوقاَ باندفاع شديد إلى هاوية السقوط أمام دعوة خادعة وإغراءات كاذبة.
وتاريخ أبناء الحركة الإسلامية مع الطغاة الظالمين خير شاهد على ذلك وليس هذا مجال للتفصيل ، خصوصا والواقع ينطق بهذه الحقائق .

ولسبيل الوصول إلى هذا الغرض الأثيم فإن الطغاة يسلطون أولياؤهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ليفسدوا على المجاهدين دينهم ، ويخلطوا على الثابتين الحق بالباطل ويكتموا الحق وهم يعلمون فيذكرون ما زين لهم من الرخص والتأويلات الشرعية ليهون عليهم التوقيع على ورقة الزحلقة.

ويقولون هذا مجرد توقيع “ومافي القلب في القلب” وأن عمار بن ياسر رضى الله عنهما نطق بكلمة الكفر مكرها ولم ينشرح بها صدره وقال له النبى صلى الله عليه وسلم ” إن عادوا فعد” ، ومن ثم فلا ضير من النطق باللسان أو التوقيع بالبنان مادام الصدر منشرحاَ بالحق ثابتاَ عليه وإن الظلمة والمفسدون سوف يتركونك لشأنك إذا فعلت ذلك مثلما ترك المشركون عمار ورفعوا عنه العذاب بمجرد أن أجابهم لما يريدون ولم يتابعوه ، بل مضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فهل هذا ما فعله – أو يفعله – الظالمون مع الموقعين ؟ أم أن هذا هو الطعم الذي تبدأ به جرجرة الموقع إلى السقوط في الخيانة والعمالة لمصلحة الطغاة ضد اخوانه!؟
وإذ هم يركزون على الترخصات للحالات الفردية الإستثنائية في التاريخ الإسلامي فإنهم يغضون الطرف تماماَ عن الأصل الذي كان عليه أغلب الصحابة والتابعين وأئمة الهدى الذين ثبتوا أمام تهديدات المبطلين ولم يسقطوا أمام إغراءاتهم.
– فهذا بلال رضى الله عنه يفعلون به الأفاعيل كما نعلم فيأبي أن يستجيب لهم ، بل يقول “والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم لقلتها ” .
– وهذا خبيب بن عدي رضي الله عنه يعذبه المشركون ليسب النبي صلى الله عليه وسلم فيأبى، أو يذكر أصنامهم بكلمة خير فيأبى ويمضي شهيداَ وهو يردد :

ولست أبالي حين أقتل مسلماَ على أن جنب كان في الله مصرعي
وكلٌ في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
– وهذا حبيب بن زيد الأنصاري رضي الله عنه يعذبه مسيلمة الكذاب ثم يسأله أتشهد أن محمداَ رسول الله ؟ فيقول : نعم ، فيسأله أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول لا أسمع… فلم يزل مسيلمة يقطعه إرباَ إرباَ حتى أسلم الروح شهيداَ ثابتاَ على الحق ، وغير هؤلاء كثير من الصحابة رضي الله عنهم .
وتبعهم على ذلك أولو العزم من التابعين وائمة الهدى في كل مراحل التاريخ .
– ومن ذلك موقف العالم الجليل سعيد بن جبير الذي واجه الطاغية الحجاج بن يوسف بكل قوة وثبات حتى قتله، فمضى شهيداَ وباء الحجاج بإثمه وكان ذلك إيذاناَ بسقوطه ثم بسقوط دولة مستخدميه من بني أمية .
– ومن ذلك موقف الإمام أحمد بن حنبل من المأمون العباسي وخلفائه في فتنة خلق القرآن ، حيث تعرض للجلد والسجن الطويل فما لانت قناته حتى أخرجه الله منها بعد بضعة عشر سنة إماماَ كبيراَ حفظ الله به الدين .
– ومن ذلك موقف سلطان العلماء العز بن عبد السلام من أمراء مصر والشام من الأيوبيين والمماليك حتى تعرض للنفي والتهديد فأصر على ثباته حتى نصره الله .
– ومن بعده شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان إصراره على الجهر بالحق والثبات عليه سبباَ في تعرضه للإضطهاد والحبس حتى وافته منيته في سجنه ، فمضى إلى الله شاهداَ على ثبات أهل الحق وشاهداَ على جور الظالمين .
– وفي العصر الحديث ….
سجل أبطال الحركة الإسلامية مواقف رائعة وواضحة في رفض الإذعان إلى الطغاة وفي التأكيد على التضحية في سبيل الله وإحقاق الحق ، غير مبالين بالمشانق المنصوبة، ولا متراجعين أمام الإغراءات الكاذبة، ولا متساقطين أمام التهديدات الجائرة .
ولا تزال كلمات الشهيد سيد قطب تقرع أسماع الدنيا وهو يعلن رفض التوقيع على تأييد الطاغية ويقول ” إن اصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة , لترفض أن تكتب حرفًا واحدًا تقر به حكم طاغية ”
– أما الحاجة زينب الغزالي فرفضت الإنحناء للظالم رغم التعذيب الهائل ورفضت كل الإغراءات بالوزارة والمنصب في مقابل التوقيع والتأييد ، وغير هؤلاء كثير ولعل آخرهم مرشدنا الجليل محمد مهدي عاكف، رحم الله الجميع .
وها أنتم أيها المجاهدون الأحرار تسيرون في ذات الطريق ” طريق الحق والثبات ” مدركين أن صفحات التاريخ قد طوت حياة الطغاة الظالمين ملعونين مذمومين، وحفظت حياة الأحرارالثابتين منارات هادية لمن بعدهم.
موقنين بأن الدعوات لا تنتصر على أيدي المترخصين ، ولاتزد إلا بجهاد الأحرار وثبات أصحاب العزائم الذين لا يمكن خداعهم عن الحق ولا استدراجهم بكل صنوف الإغراء أو التهديد أو الوعيد .
– ومما يلبس به البعض الحق بالباطل : القول بأن الصحابي الجليل عبدالله بن حذافة السهمي قبَل رأس ملك الروم الكافر في سبيل تخليص نفسه واخوانه من الأسر، فلماذا لا نترخص كما ترخص من أجل المصلحة ؟
وهذا من أعجب العجب حيث أن هذه القصة من أقوى الأدلة على الأخذ بالعزائم في الأمور ورفض الترخص أو التنازل مهما قلَ، حتى ولو أفضى الثبات على ذلك إلى الشهادة .
وحقيقة القصة كما رواها ابن عساكر ونقلها ابن كثير:
أنه في السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا لحرب الروم فيه عبد الله بن حذافة وكان قيصر الروم قد تناهت إليه أخبار المسلمين وما يتحلون به من صدق الإيمان واسترخاص النفس في سبيل الله ورسوله ، فأمر رجاله إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين أن يبقوا عليه وأن يأتو به حيا .. وكان عبد الله بن حذافة ممن وقع في الأسر.
نظر ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة طويلا ثم بادره قائلا : إني أعرض عليك أمراً !!
قال : وما هو ؟
فقال : أعرض عليك أن تتنصر … فإن فعلت خليت سبيلك ، وأكرمت مثواك ، فقال الأسير في أنفة وحزم : هيهات .. إن الموت لأحب إلي ألف مرة مما تدعوني إليه.
فقال قيصر : إني لأراك رجلا شهما … فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني . فتبسم الأسير المكبل بقيوده وقال : والله لو أعطيتني جميع ما تملك ، وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت.
قال : إذن أقتلك.
قال : أنت وما تريد ، ثم أمر به فصلب ، وقال لقناصته – بالرومية – ارموه قريبا من رجليه ، وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى.
عند ذلك أمرهم أن يكفوا عنه ، وطلب إليهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب ، ثم دعا بقدر عظيمة فصب فيها الزيت ورفعت على النار حتى غلت ثم دعا بأسيرين من أسارى المسلمين ، فأمر بأحدهما أن يلقى فيها فألقي ، فإذا لحمه يتفتت ، وإذا عظامه تبدو عارية…

ثم التفت إلى عبد الله بن حذافة ودعاه إلى النصرانية ، فكان أشد إباء لها من قبل.

فلما يأس منه ، أمر به أن يلقى في القدر التي ألقي فيها صاحباه فلما ذهب به دمعت عيناه ، فقال رجال قيصر لملكهم : إنه قد بكى … فظن أنه قد جزع وقال : ردوه إلي ، فلما مثل بين يديه عرض عليه النصرانية فأبى ، فقال : ويحك ، فما الذي أبكاك إذا؟!
فقال : أبكاني أني قلت في نفسي : تلقى الآن في هذه القدر ، فتذهب بنفسك ، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس فتلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله .
فقال الطاغية : هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين أيضا ؟
قال : وعن جميع أسارى المسلمين أيضا.
قال عبد الله : فقلت في نفسي : عدو من اعداء الله ، أقبل رأسه فيخلي عني وعن أسارى المسلمين جميعا ، لا ضير في ذلك علي. ثم دنا منه وقبل رأسه ، فأمر ملك الروم أن يجمعوا له أسارى المسلمين ، وأن يدفعوهم إليه فدفعوا له.

قدم عبد الله بن حذافة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأخبره خبره ، فسر به الفاروق أعظم السرور ، ولما نظر إلى الأسرى قال : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة .. وأنا أبدأ بذلك…
ثم قام وقبل رأسه. …

أفرأيتم أيها المجاهدون كيف بلغ الثبات إلى هذا الحد الذي ملأ قلب الملك الكافر إعجاباَ، معتبراَ مجرد تقبيل عبدالله لرأسه وهو “أمر تافه” ثمناَ مناسباَ لتحرير جميع أسرى المسلمين !!
آه لو تعلمون أيها المجاهدون ما يصنعه ثباتكم من الأعاجيب في نفوس ظالميكم الذين يبغون في الأرض بغير الحق !!

وأنتم بهذا الثبات تحفرون أسماءكم في قوائم العز والشرف وتتأهلون بذلك الإستحقاق رضوان الله بإصراركم على ” أعظم الجهاد” قول الحق في وجه الظالمين ، وشتان بين حفر الأسماء في قائمة الشرف وبين التوقيع على ورقة “الزحليقة ” التي يراد بها اسقاطكم في بئر الخيانة لربكم ولدينكم ولدعوتكم ولأمتكم التي تضع فيكم آمالها في الإنقاذ بإذن الله .
فاثبتوا على حقكم وعَضوا على دعوتكم ومبادئكم بالنواجز، وترقبوا ساعة النصر وماهي منكم ببعيد .
والله معكم …. ولن يتركم أعمالكم ….