هدايا الجنة لآهلها في الدنيا

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة و السلام على من لانبي بعده ، و على آله وصحبه أجمعين …وبعد
فإن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها و هم في أصلاب آبائهم ، و خلق النار و خلق لها أهلها و هم في أصلاب آبائهم ، و بهذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما من خلقه للجنة فإن هداياها لم تزل تأتيه على المكاره التي يصبرلها و يثبت عندها، مثلما لأهل النار هداياها من الشهوات والمتاع ، فإن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات .
لهذا فإن العبد الصادق ينظر إلى المحن والشدائد بعين البصيرة فيتلمح ما ورائها من العواقب فتهون عليه مرارة الصبر، و يجعل أمام ناظريه على الدوام (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا …) و يوقن بإن العاقبة للمتقين ، نصراَ في الدنيا و فوزاً في الآخرة في جنات النعيم حين يوفى الصابرون أجرهم بغيرحساب.

ويدلنا الإمام الراشد المرشد ابن القيم – رحمه الله – على سبيل النظرالصحيح فيما جرى على العبد من مقدور يكرهه ، إذ يكون له فيه ستة مشاهد :

1- مشهد التوحيد : إذ يوقن بأن الذي قدرهذا وشاءه وخلقه هو الله الذي يفعل ما يشاء، ولا دخل لأحد مع الله في هذا التقدير.

2- مشهد العدل : فيوقن أنه ماضٍ فيه حكم ربه، عدل فيه قضاؤه، لاظلم في ذلك ولا ميل.

3- مشهد الرحمة : فيوقن بأن المقدر سبحانه رحيم سبقت رحمته غضبه، وغلبت رحمته انتقامه، فلاشك أن في طيات هذا المقدور تكن هذه الرحمة التي سيدركها العبد عاجلاً أو آجلاً.

4- مشهد الحكمة : فيوقن أن حكمة الحكيم سبحانه في تقدير هذا المكروه لمصلحة قد لا يراها العبد ، إذ ليس في فعل الحكيم عبث ولا يكون تقديره سدى.

5- مشهد الحمد: فيوقن أن من واجبه إعلان الحمد على كل وجوه قدره ( الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار) إدراكاً عن العبد أن فيما قضى الله الخير وإن خفي عليه وجهه.

6- مشهد العبودية : فيوقن أنه عبد محض تجري عليه أحكام سيده بحكم كونه عبد و في ملكه، له سبحانه أن يصرفه تحت أحكامه القدرية مثلما له أن يأمره بأحكامه الدينية، وعلى العبد بمقتضى هذه العبودية أن يستسلم للحكم القدري، وأن يستجيب للحكم الشرعي.

وبهذه المشاهد تحصل الطمأنينة للعبد في مواجهة المقدور الذي يكرهه و في مقابلة الشدائد التي تنزل به، و انظر إلى توجيه الحق سبحانه عباده لبعض اسباب استحقاقاته وحده ولاية عباده في قوله تعالى :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۖ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

وبقتضى ذلك (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) )

فهل ترى لك غير الله ولياً ووكيلاً تستند إليه في أتون المحنة وضراوة الشدة ؟

ربما كان جهل العبد بمصالح نفسه وبكرم ربه وبحكمة مولاه ولطفاً، ربما كان ذلك باعثاً له على الولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً، وعلى قلة الرغبة في الآجل وإن كان غالياًعليها ثميناً.

لأن الجهل يمنعه من معرفة مدى التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادُخر له، لكن المجاهد السالك طريق الأنبياء والصالحين يدرك أن مقتضى العبودية في الشدائد و المصائب والمكروهات هو التسليم لربه و الصبر لحكمه و الرضا بقضائه و التعلق به وحده في كشف الضر و دفع الشر (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ..)
ولذلك فهو لايرى ربه إلا محسناً، ولايرى نفسه إلا مسيئاً أو مفرطاً أو مقصراً، ولا يرى سبيلاً في النجاة إلا في الرجوع المستمر إلى ربه، فيكون أواهاً منيباً، كما كان أبوه مجدداً دائماً لعهده مع الله بقبول حكمه القدري و الاستجابة لحكمه الشرعي و المسارعة إلى الإستغفار و التوبة وانتظار الفرج من الفتاح العليم القادر على كل شيء ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ …)

ثبتنا الله وإياكم على الهدى، وجنبنا وإياكم سبيل الردى ( والله معكم ولن يتركم أعمالكم )