وافعلوا الخير

قول الخير مطلقاً، وفعل الخير عامة، والدعوة إلي الخير بكل صوره، والدلالة إلي كل خير، والإعانة علي كل بر، هي رسالة المسلم في هذه الحياة، ومهمته في هذا الوجود، فقد خلقه الله تعالي لإشاعة الخير والبر والمعروف، ورفع أعلامه، وتوطيد أركانه، وإقامة بنيانه، وترسيخ نظامه، وقد خلق الله تعالي الإنسان سيداً للكون كله عبداً لله وحده، وأمره بتوحيده وتقديسه وعبادته، وعمارة الأرض بهدايات السماء، وجعل فعل الخير والتسابق فيه والمسارعة إليه صنو التعبد المحض؛ فقال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الحج: 77)

فالفلاح يتحقق بفعل الخير ابتغاء مرضاة الله، كما يتحقق بالركوع والسجود لله، ولا يغني أحدهما عن الآخر؛ ولا تكتمل رسالة المؤمن في الحياة إلا بهما معاً؛ فهما كجناحي الطائر لا يحلق إلا بجناحيه كليهما.

ويتأكد هذا المعني بالتمعن في تعبير القرآن الكريم عن مهمة الأنبياء، الذين أرسلهم الله تعالي لهداية الناس، ودلالتهم علي الخير، وقيادتهم إلي الرشد، وتأمل قوله تعالي: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 73) فقد جاء فعل الخير في القلب من هذه اللوحة البديعة، يحف به من كل جانب صور بعضها للتعبد المحض كالصلاة والزكاة، وبعضها عبادات اجتماعية، كالمجاهدة لإقرار الحق في الواقع، وجهاد الدعوة لهداية الناس إلي طريقه.

وتَظْهَرُ مركزية فعل الخير في التصور الإسلامي كذلك في تعبير القرآن الكريم عن مهمة ورثة الأنبياء من العلماء والدعاة والمصلحين، وتأمل معي قوله تعالي: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104) فقد ركزت الآية علي العبادة الاجتماعية المتمثلة في الدعوة إلي الخير بكل صوره، والأمر بالمعروف بكل أشكاله، والنهي عن المنكر أياً كان، وذلك لعموم الألفاظ في الآية، ولا يعني ذلك إهمال العبادة المحضة فهي من المعلوم بالضرورة، بل إن النجاح في الثانية مرتبط بها مترتب عليها.

وفعل الخير هو مضمار أساسي للتسابق، وتحقيق المكانة والمنزلة في الآخرة، قال تعالي: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 148). حتي التفاضل بين الصالحين الذين اصطفاهم الله تعالي للقيام بأمره والدعوة إلي منهجه يكون علي قدر فعلهم للخير، وتأمل معي تعبير القرآن العظيم ووصفه الدقيق لتوفيق الله تعالي الإنسانَ إلي فعل الخير، والسبق إليه، والمسارعة فيه، فقد وصف ذلك بأنه الفضل الكبير، وإنه والله لكذلك، قال عز من قائل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (فاطر: 32)

فالسبق بالخيرات هو الفضل الكبير الذي يورث المنزلة العالية عند الله يوم القيامة، ويا له من فضل، ويا لها من منزلة. فالمسارعة المسارعة، والبدار البدار، والسبق السبق ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الحديد: 21)﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133).

فاستغنم الخير فالدنيا علي أحد ***** ليست تدوم وهذي عادة الزمن

وفعل الخير سبب لكل خير في الدنيا،لا يعود علي صاحبه وحده، وإنما علي محيطه كله، وتتسع دائرة الخير وتنداح، حتي يسعد بها كل البشر، بل كل الكائنات، وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول: «لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَ بِالْخَير» (رواه البخاري) وصدق ربنا سبحانه إذ يقول: ﴿هلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن: 60). وفعل الخير سبب للتوفيق وإجابة الدعاء والنجاة من الشدائد والكروب بفضل الله، وتأمل سبب استجابة الله تعالي دعاء زكريا عليه السلام: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 90).

وقد فتح الإسلام أبواب الخير علي مصاريعها، وعدد أنواعها وأشكالها، ورصد لكل صنف منها من الأجر والثواب ما يحض عليه ويدفع إليه، ويحفز لفعله، حتي يستطيع المساهمة في فعل الخير كل كبير وصغير، وغني وفقير، ويتمكن المسلم مهما كانت ظروفه، ومهما كانت أحواله أن يساهم في نشر الخير في المجتمع وترسيخ جذوره حتي بأي صورة من الصور فهو لن يعدم صورة يستطيعها في كل الأحوال، عَنْ أبِي ذَرّ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إلا عَلَيْهَا صَدَقَة فِي كُل يَوْم طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ»قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنْ أيْنَ لَنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟ فَقَالَ: «إِنَّ أبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثيرَةٌ: التسْبِيحُ، وَالتحْمِيدُ، وَالتكْبِيرُ، وَالتهْلِيلُ، وَالأمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، والنهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطريقِ، وتُسْمعُ الأَصمَّ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْك مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» (رواه مسلم).

والدلالة علي الخير فيها متسع لكل من لا يملك مالاً أو يستطيع عملاً، ومن كرم الله وجوده أن جعل الدال علي الخير كفاعله في الأجر. عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ يَسْتَحْمِلُهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُهُ فَدَلَّهُ عَلَى آخَرَ فَحَمَلَهُ وَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِه» (رواه مسلم). ويدخل في ذلك من يقدم الأفكار والمقترحات والرؤي لكنه لا يستطيع تنفيذها، فهو شريك في الأجر لمن وفقه الله تعالي إلي تنفيذها وجعلها واقعاً حياً،فالأول منحه الله نعمة التفكير فأدي شكرها، والثاني رزقه الله نعمة التدبير فأدي شكرها، وكلاهما يكمل عمل الآخر، وكلاهما سواء في الأجر إن شاء الله. ومن لم يستطع قولا ًولا عملاً ولا إنفاقاً؛ فإن المشاعر التي يتمني بها الخير لأخيه المسلم تدخله في هذا الباب، باب فل الخير، ولو لم يبذل في ذلك مالاً، ولم يحرك ساكناً، أو يمشي خطوة. بل إن هذه المشاعر من علامات كمال الإيمان. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتىَّ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ» (رواه البخاري ومسلم).

والتربية علي فعل الخير عمل عظيم، يحتاج إلي جهد ومتابعة واستمرار، فالنفس كالطفل يمكن أن تنشأ علي حب الخير والتعلق به، ويمكن أن تنشأ علي استمراء الشر والتعود عليه، ولذلك كانت وصية الرسول صلي الله عليه وسلم للمسلم أن يعود أولاده علي فعل الخير منذ نعومة أظفارهم، ويحثهم علي المشاركة في أنشطة الخير المختلفة، روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: “حَافِظُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلِّمُوهُمُ الْخَيْرَ فَإِنَّمَا الْخَيْرُ عَادَةٌ”(سنن البيهقي). قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه”.

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اَلْخَيْرُ عَادَةٌ, وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ» (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني الأرناؤوط). قال السندي: “المؤمن الثابت علي مقتضي الإيمان والتقوي ينشرح صدره للخير فيصير له عادة وأما الشر فلا ينشرح له صدره ولا يدخل إلي قلبه إلا بلجاجة الشيطان والنفس الأمارة”. ومن لطائفه صلي الله عليه وسلم أنه يدعو لأصحابه أن يوجههم الله إلي الخير أينما حلوا أو ارتحلوا. عَنْ أَنَسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي قَالَ: «زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى» قَالَ زِدْنِي، قَالَ: «وَغَفَرَ لَكَ» قَالَ زِدْنِي، قَالَ: «وَوَجَّهَكَ إِلَى الْخَيْرِ حَيْثُ تُوَّجَّهُ لَهُ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

واجبات عملية:

حدد لكل يوم عملاً من أعمال الخير تقوم به مع نفسك وأهلك ومجتمعك.

عود أطفالك علي فعل الخير منذ نعومة أظفارهم حتي يصبح لهم سلوكاً وفيهم طبعاً.

ناقش مع إخوانك صور الخير التي يمكنك أن تقدمها للمجتمع وتتقرب بها إلي الله في ظروفك الحالية.