عندما ينظر بعضنا في مرآته ويجد أن الأيام قد مرت لاهثة لم يلتفت لانقضائها , وشغلته الدنيا بزهرتها وزينتها , فيجد الكثير منا أنه قد أضاع بغفلة منه زهرة أيامه وغبن فيها بصحته وفراغه , واليوم يرى الشيب قد غزا مفارقه ووهن جسده , فينظر إلى حاله والى ما صار إليه , فحينها لابد وأن يقف مع نفسه وقفات لنحمد الله فيها بداية أن مد في عمره ولم يأخذه على غرة وأنه أمهله هذه السنين الطوال لعله يستدرك ما فاته .

ساعتها ينظر المؤمن إلى قلبه ليفتش فيه ويُجلي صدأه , وليجعل لنفسه مع ربه خلوات يستعد بها للقائه الذي سيأتي لا محالة , ليعزم عزمة ربانية على المضي في طريق الوصول لربه ضارعا إليه أن يحسن خاتمته وأن يتقبله في الصالحين .

يتذكر المؤمن كيف كان في أول عهده في معاملته لنفسه عندما كان إيمانه في قلبه غضا طريا , كيف كان يحاسبها ويشارطها ويراقبها وكيف كان همه الأول إصلاح نفسه وتهذيبها وتقويمها , وينظر إلى حاله بعد تباعد السنين وطال عليه العهد والأمد لينظر كيف انخرط في الدنيا وانشغل بها ونافس أهلها , فربما يجد قسوة في قلبه لم يعهدها ولم يعلم بوجودها ولم يشعر بتسللها , ساعتها يشفق على نفسه وتزداد خشيته من لقاء ربه على مثل تلك الحال .

فساعتها يقع في قلبه معنى قول الله عز وجل في تحذيره للمؤمنين ” أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ” , فتنهمر دموعه خشية أن يكون ممن ختم الله بهم الآية الكريمة , ويدرك سبب حزن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع هذه الآية وخوفهم من وعيدها , فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه كما رواه مسلم ” ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية  إلا أربع سنين , فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول : ما أحدثنا؟” .

ومن بعض أسبابها كما قال محمد ابن كعب : ” كان الصحابة بمكة مجدبين ، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله، فأفاقوا” فكيف بالنعم التي نتنعم بها نحن الآن من النعم التي يقال أنها شغلت الصحابة ؟ , وهم من هم , فهم أفضل جيل وجد على ظهر الأرض , هم الذين اختارهم الله لصحبه نبيه ولم يتخلفوا عن غزاة غزاها صلى الله عليه وسلم ولم يتخاذلوا عن سرية أرسلها وضحوا فيها بكل ما يملكون وهجروا أموالهم وديارهم لله ولرسوله .

ومن أسباب قسوة القلب التي يجدها أحدنا ما قاله الإمام مالك رحمه الله في الموطأ : “بلغني أن عيسى -عليه السلام- قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون , ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب , وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية” .

فما أحوجنا أن نتوقف طويلا أمام قلوبنا لنزينها للقاء ربها فإنها محل نظر الله سبحانه كما قال تبارك وتعالى “يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” وكما بلغنا من نبيه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم  “إن الله لا ينظر إلى أجسادكم , ولا إلى صوركم , ولكن ينظر إلى قلوبكم” .