يسألونك عن الطغيان

محمد العبدة

لماذا هذا الحديث المتكرر في كثير من سور القرآن الكريم عن موسى عليه السلام وفرعون؟ إنها أكثر قصة معروضة في القران، وفي كل سورة يعرض جانب من جوانب هذه المواجهة بين موسى عليه السلام وفرعون، أليس هذا دليلاً على أن من الأهداف الرئيسية للقرآن الكريم محاربة الطغيان كظاهرة بشرية ، وتوضيح نفسية وعقلية الطغاة وكيف يتصرفون وكيف يفكرون ، هذا الطغيان الذي يفسد المجتمعات والأفراد ، بل يدمر نفسية الإنسان ويحطم شخصيته وكرامته.

إن الإسلام وهو خاتمة الرسالات إلى الأرض جاء ليحرر الإنسان من الشرك ، من اتخاذ الأرباب من دون الله ، وقصة الأنبياء مع البشرية ما هي إلا لحل مشكلة الإنسان الذي يقع في المعضلات و النكد والخسران حين لا يتوجه بالعبودية إلى خالقه، وحين يتكبر عن الخضوع لرسالة السماء ، وإنها قصة الصوت الصارخ في وجه الظلم ، و إنقاذ المجتمع مما يعاني من أزمات اجتماعية وسياسية .

الإنسان مخلوق مكرم ، ولكنه إذ لم يهتدي بالوحي ، و إذ يظن انه استغنى ، فإنه يطغى ، والطغيان هو مجاوزة الحد (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ) وعندما يظن هذا الإنسان بسبب أهوائه ووسوسة الشيطان انه يستطيع على كل شيء ، وانه مستغن بذاته وبقوته وذكائه وزبانيته ، فإنه يتجاوز حدوده ، ويستعبد الناس ويقهرهم .

حارب الإسلام كل أنواع الطغيان ، طغيان الفرد وطغيان المجتمع ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وطغيان المال والميزان (ألا تطغوا في الميزان ، وأقيموا الوزن بالقسط ) واعتبر إفساد عقيدة الناس من الطغيان ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ، ولكن كان في ضلال بعيد ) ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا بل هم قوم طاغون ) ووصف العقائد الضالة والمذاهب المنحرفة بالطاغوت ( فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) إن قمة الطغيان والمثل الأعلى له هو فرعون ، والقرآن الكريم على طريقته في تناول بعض الأحداث والقصص لا يذكر الأسماء ، لأن فرعون نموذج لكل متكبر عال في الأرض من المسرفين ، إنه يمثل الطغيان السياسي حين استكبر و ظن أنه يملك مصر وأنهارها وسكانها ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) واستعبد وسخر بني إسرائيل لأهوائه ومطامعه ، ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) والطاغيه يوهم الناس انه من طينة غير طينتهم ، وكأن فيه جزء من الإلهية ولذلك يجب أن يخضعوا له (فقال أنا ربكم الأعلى ) ولا يخفى على فرعون أنه ليس الإله الذي يخلق ويرزق ويحي ويميت ، ولكنه يرى نفسه أنه هو السيد الأعلى الذي يجب أن يسخر له كل شيء ، قال تعالى : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) انه التكبر واستعباد الناس حين يظن الطاغية انه هو الأقدر على فهم الأمور وهو الأذكى ، وهو الأعلم ( ما أريكم إلا ما أرى ) فليس للناس رأي ولا للمصلحين ، وفرعون يتعجب من دعوة موسى له ومجابهته إياه : ( قال لمن حوله ألا تستمعون ) أي كيف يتجرأ موسى على مخاطبتي ، و عقيدة قوم فرعون أنه ربهم و معبودهم ولا يستبعد هذا عن الشعب الذي يغلب عليه الإيمان بالأشياء المادية المحسوسة ولا يؤمن بالغيب، ولكن فرعون يعلم قدر نفسه ، ولذلك يحرضهم على عدم الاستماع لموسى ويؤلبهم عليه ، ويقول لهم إن موسى وأخاه يريدان إفساد نظامكم ودولتكم ( إني أخاف أن يبدل دينكم ) وكأننا نرى هنا أن الطاغية مهزوم في داخله ، ونفسه خواء وهو يعوض عن هذا النقص بقهر الناس وتقريب زمرة صغيره ليكونوا شركاء له في جرائمه ويدربهم على القسوة البالغة نحو المجتمع ، إنه يريد الاستقرار والاستمرار في الظلم ، والحاشية تريد الاستفادة من تراكم الأموال ، وفي العادة فإن الطاغية يُرضي هؤلاء بترك الحرية لهم في أكل أموال الناس .

هل يكفي أن نأخذ العبرة ، ونتحدث عن مساوئ الطغيان وكيف أنقذ الله موسى عليه السلام وقومه من فرعون وعمله ، أم أنه زيادة على ذلك، يريد الله سبحانه وتعالى منا أن ندرس هذه الظاهرة ، وكيف نتجنبها ، وكيف نقاومها ، لأنها موجودة في كل زمان ومكان ، والطغيان أمر كريه ، يفسد كل شيء وهو أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى .

القرآن الكريم أدان هذه الظاهرة ، وهذا معناه إدانة أي حاكم يتصف بالصفات المذكورة عن فرعون أو ببعضها، وظاهرة الطغيان السياسي تتفاقم عندما تتنازل الشعوب عن حقها في العزة والكرامة ، وهي تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى ، ولكن هذه الشعوب لا تعلم أن هذا الخوف هو وهم ، فلا يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة ، أراد الإسلام اقتلاع جذور الطغيان ، ليس في نفس الحاكم وحسب ، بل في المحكوم أيضا ، حين يقبل به وحين يعتبره وكأنه شيء طبيعي ويجب الخضوع له ، وحتى لا يمارس الفرد الطغيان أيضا في أسرته وعمله ، أراد الإسلام اقتلاع الطغيان لأن الطغاة يفقرون شعوبهم ويشغلونهم برزقهم اليومي حتى لا يفكروا بالتغير ، والفقر يجلب معه رذائل شتى ، من سقوط الهمم والجهل والمرض .

والطاغية لا يقف عند حد ، فإذا أنت أسلمت أمرك للطاغية لم يرض منك بالطاعة ، بل يصر على أن تكون طاعة وإذلالاً ، والطاغية يكره العظماء من القادة والساسة والعلماء والأدباء ، وإذا قبلهم فإنه يريد أن يكونوا أذناباً له والطاغية يخدع الناس بالوعود الكاذبة ، ثم يبدأ بتكوين حرس خاص به ، بحجة المحافظة على مطالب الشعب ، ثم يبدأ بمحاكمة من يعارضه ، ويخترع لهم تهم باطلة ، ثم ينقلب حكمه في النهاية إلى كارثة.

عاقب الله سبحان وتعالى هؤلاء الطغاة الظالمين الذين لا يتحرك لهم ضمير ولا يتعظون بمصير من قبلهم ، عاقبهم بصرفهم عن الهداية ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ) ومن عقوبة الله للطغاة أنهم يعيشون في خوف دائم – وإن كان الظاهر غير ذلك – وذلك لكثرة المؤامرات والدسائس وكثرة الوشاة ، ولذلك فهم يرتابون في كل أحد .

والخلاصة أن الطغيان ظاهرة مَرَضِية ركز عليها القرآن ، وفصل فيها حتى يتجنبها المسلمون، ويقاومها أهل العلم والفضل