الانهزام النفسي.. أسبابه وأثره على الأمة والدعوة
الدكتور / بدر عبد الحميد هميسه
الانهزام النفسي آفة ابتلي بها كثير من المسلمين في زماننا، وهي واحدة من أهم أسباب ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم، ولابد من معرفة أسباب الانهزام النفسي وعلاج تلك الأسباب كخطوة على طريق العودة إلى الريادة والسيادة والقيادة.
معنى الانهزام النفسي:
هو استصغار النفس واستذلالها وانكسارها أمام أعدائها.
وهو أيضا استكانة النفس الخيرة وهزيمتها أمام النفس الأمارة بالسوء.
وهو استصغار النفس واستخذاؤها أمام شدائد الدنيا وبريقها وزخارفها وزينتها وأمام بلاءات شياطين الإنس والجن.
وهو أيضا شعور الإنسان بعدم أهليته لعمل الخير والمعروف وتحمل المسئوليات الكبار، وأحيانا أيضا الصغار.
مظاهر الانهزامية:
1ـ رفض أي مسئولية قيادية ولو كانت جزئية، ومحاولة التخلص من أي أمر له تبعة ولو كان بسيطا؛ تهربا مما تتطلبه المسئوليات من أعباء وتبعات.
2 ـ القعود عن العمل للدين من الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجاهدة الكافرين والمنافقين بدعوى تفشي الشر وانتشار المنكر واستحالة التغيير.
3 ـ الخضوع والانقياد والاستسلام للأهواء، والإغراق في زخارف الدنيا ومباهجها، والانشغال بالتنافس على حطامها.
4 ـ اعتزال البعض للمجتمع والانكفاء على النفس هربا من مواجهة المنكر والباطل واختيارًا لسبيل الراحة والدعة عن مدافعة الظلم والظالمين.
5 ـ الخوف من الباطل والانقياد له مع ظهور روح اليأس من إمكانية المجابهة والمواجهة بحجة أن الباطل يملك كل شيء وأننا لا نملك أي شيء.
6 ـ الانبهار الواضح بثقافات الآخرين، والتساهل في قبول أفكارهم وطرائق معايشهم، بل وفي بعض الأحيان تبني أجنداتٍ تحقق لأعداء الدين مآربهم ومطامعهم.
ولا شك أن لهذه الهزيمة وذلك الاستخذاء أثره المدمر على من أصيب به وعلى أمته؛ فالأمة المهزومة نفسيا لا تنتصر أبدا، فالنصر حليف الجِدّ والمثابرة، والمنهزم نفسيا لا جد ولا عمل، بل ولا تطلع ولا أمل..
ومن هنا كان القرآن والسنة يحذران المسلمين من سلوك هذا السبيل والوقوع في ذلك المأزق..
قال تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7)
وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره قال صلى الله عليه وسلم: “لا يحقر أحدكم نفسه..”
وفي صحيح مسلم: [احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز]
بل وسبيل القرآن والسنة مدح النفس بما فيها من خير ما لم يكن كبرًا أو ظلما أو إعجابا أو فخرًا، وخصوصا إذا كان في ذلك إظهار حق أو إخذاء باطل أو جلب منفعة أو دفع مضرة.. وقد ضرب يوسف نبي الله في ذلك الأمر مثلا حين طلب التمكين على خزائن الأرض مع تزكية نفسه بأنه حفيظ عليم.. وقد كان من وراء ولايته خير كثير ونفع عميم.
وقد ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه سيد ولد آدم ولا فخر. وقال عن نفسه أيضا: [أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له] رواه البخاري ومسلم
وقال ابن مسعود عن نفسه: “والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه”. والأثر رواه البخاري ومسلم أيضا.
وقد علق ابن حجر على هذا الأثر فقال: “وفي الحديث جواز ذكر الإنسان نفسه بما فيه من الفضيلة بقدر الحاجة، ويحمل ما ورد من ذم ذلك على من وقع ذلك منه فخرا أو إعجابا”(فتح الباري: 9/51)
وأما ما جاء في الشرع بهضم النفس، والتواضع فليس هذا بابه، وإنما من باب تربية النفس وتأديبها وتزكيتها، وعدم تطاولها على الخلق صيانة لها عن الكبر والعجب، أما انكسارها واستخذاؤها أمام الباطل فلم يعرف عن قرآننا وسنة نبينا ولا عن سلفنا الأولين. بل هذا عمر بن الخطاب رغم ما فعل بنفسه من أسباب التواضع يعلنها مدوية: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله”.
فالتواضع شيء والعزة بالإسلام شيء، وكلاهما لا علاقة له بالهزيمة النفسية.
أسباب الهزيمة النفسية :
لقد كان لهذه الآفة أسبابها التي مكنتها من قلوب هؤلاء المنهزمين، ومن هذه الأسباب أسباب تربوية وأخرى ثقافية واجتماعية .. ومن ذلك:
اـ عدم التعود على تحمل المسئولية :
ذلك أن التعويد على المسئولية وتشجيع الطفل على ذلك منذ بدايات نشأته يمنح المرء الثقة بالنفس، واحتراما وتقديرا لها، وأنها قادرة على تخطي الصعاب وتحمل المشاق، وإهمال هذا الجانب التربوي يفقد الإنسان الثقة بنفسه، إن لم يحقرها ويصغرها فتكون الهزيمة النفسية.
ب ـ كثرة الانتقاص والتحقير والتأنيب :
فالمداومة على لوم الشخص وتأنيبه، أو إظهار تحقيره وتصغيره، أو وصفه بالفشل يؤثر سلبا على احترامه لنفسه وثقته بها؛ خصوصا إذا كان في مراحل عمره الأولى. وقد نهى القرآن العظيم عن هذا المسلك المشين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11)
وقال صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم].
ج ـ العيش وسط المنهزمين:
فالبيئة لها أثرها في توجهات الشخص، وإذا كان مجالسوا المرء مهزومين فسينهزم معهم ولو بعد حين، فبيئة الذل والاستكانة ماديا واجتماعيا أكثرها منهزمون، كما أن أكثر المثقفين المستغربين منهزمون ثقافيا وفكريا.
د ـ حب الدنيا وكراهية الموت:
فحب الدنيا رأس كل خطيئة، ومن عاش لدنياه وحطامها فاته عز أهل التقوى؛ فمحبته للدنيا وطلبه لحطامها يحمله على التنازل عن كثير من الصيانة والأنفة والعزة، مع التزلف والتذلل لمن كانت الدنيا في أيديهم (في الظاهر) لينال بعض فتاتها.
وحب الشهوات يوقع المرء في المعاصي فينكسر انكسار المهزوم وتضرب عليه ذلة أهل المعاصي، فمن شؤم المعصية تمكين الشيطان من القلب والخروج من عصمة الله تعالى وكنفه، فمهما طقطقت به البغال أو هملجت به البرازين فإن ذل المعصية لا يفارقه.
ومن انهزم أمام نفسه وهواه وشيطانه، انهزم أمام عدوه الظاهر من باب أولى.
هـ ـ عدم الثقة في الله ومنهجه :
فقد يكون ـ بل لابد أن يكون ـ عدم الثقة بالله تعالى ومنهجه من أعظم أسباب الانهزامية، فالعزة كما قال ربنا لله ولرسوله وللمؤمنين، والنصر لمن علم موعود الله وأيقن به متحقق لا محالة، والاستعلاء إنما يكون بالإيمان، والاعتزاز إنما يكون بالانتساب إلى هذا الدين، فمن شك في موعود الله، أو ظن أن الله يخذل دينه وأهله، لا يسعه إلا أن ينهار فينهزم نفسيا، وربما انقلب فصار من حزب الخاسرين.
و ـ الغفلة عن عواقب الانهزام وآثاره:
فالانهزام النفسي له عواقب وخيمة، وآثار مدمرة جسيمة، إذا أدرك الإنسان مداها عالج نفسه ليتخطاها، وأما من غابت عنه تلك العواقب رضي بالدون واستساغ الهون.. ومن تلك العواقب:
أولا مداهنة الظالمين:
فالمهزوم نفسيا مبتلى باحتقار النفس مع تعظيم الآخر، فيرتمي في أحضانهم أو يداهنهم على نحو ما نرى في واقع أمتنا اليوم على جميع أصعدتها (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) (المائدة: من الآية52) كما قال عبد الله بن أبي بن سلول عن موالاته لليهود: “إني لا أدع موالاتهم إني امرؤ أخشى الدوائر”.
ثانيا: الهزيمة العسكرية :
فالهزيمة النفسية مقدمة للهزيمة العسكرية، واحتلال الأرض بعد احتلال العقل والقلب، فأمثال هؤلاء لا يقاومون ولا يجاهدون؛ فهم في أنفسهم أصغر وأحقر من أن يقفوا في وجه أعدائهم، وقد يعلم الأعداء منهم ذلك فيستبيحون أرضهم وينتهبون ثرواتهم وخيراتهم ويجرعونهم ذل الاستعباد الحقيقي بعد الاستعباد الفكري والثقافي.. وهو واقع تعيشه الأمة في فلسطين والعراق وأفغانستان والبلقان والصومال… والآتي لا يعلمه إلا من لا يعلم الغيب سواه.
ثالثا: امتهان المقدسات وانتهاك المحرمات:
فحين يرى أعداؤنا الهزيمة قد تملكت من نفوسنا، والهلع قد احتل كل زاوية في قلوبنا، داسوا رقابنا، وانتهكوا أعراضنا، واستحلوا محارمنا، وجاهروا بانتقاص ديننا، ورسولنا وقرآننا، وأعلنوا بالاستهزاء بأوامر ديننا ومظاهر شرعنا ولا غرو فلا ملامة على حاقد موتور فإنهم لم يجدوا من يصدهم ولا من يردعهم .. وقد قيل قديما:
تعدوا الذئاب على من لا كلاب له …. … وتتقي مربض المستأسد الضاري
رابعا: الأثر على العمل الإسلامي :
فالانهزامية لها أثرها السلبي على العمل الإسلامي ككل، وأعظم ذلك الفرقة والتمزق بسبب اختلاف يبدو كأنه اختلاف في وجهات النظر لكن الحقيقة أنه اختلاف في وجهات القلوب، ذلك أن فريق المنهزمين غالبا ما يطرح وجهات نظر تخالف الآخرين لاختلاف الهمم والرغبات، فيختلف الفريق الواحد إلى مؤيد ومعارض ومساعد ومعاند مما يوهن الصف ويفرق الكلمة ويفتح الباب أمام المتربصين من الأعداء للولوج والإطباق والتطويق.
كما وأن الانهزامية تصرف الناس عن اتباع هؤلاء فالناس لا تقتدي إلا بأهل القوة في الدين والثبات واليقين.. أما المنهزمون فإن الناس لا يأبهون بهم ولا يعلقون آمالهم عليهم في قليل ولا كثير. وهذا يؤثر بالسلب على الحركة الإسلامية والدعوة ككل.. بل ويكون من أكبر أسباب تأخير النصر “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”.
إن استفحال هذه الظاهرة بين الناس ينذر بسوء العواقب، وينبه إلى لزوم سرعة العلاج والأخذ بأسباب الارتقاء والعز والقوة ومن أهم هذه الأسباب:
– التعرف على الله تعالى حق المعرفة، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم،
– وتربية النفس على تصديق موعود الله لأهل الإيمان بالنصرة والتمكين.
– إعادة الثقة إلى النفوس، وربط الناس بمصداقية منهج الله وأحقيته في قيادة الحياة بعد فشل كل المناهج الأخرى.
– الاعتزاز بالإيمان، واستشعار عظيم نعمة الله بجعلنا من أهله؛ مما يدفع إلى العمل الدائب لنصرة هذا المنهج الحق.
– العمل على إخراج حب الدنيا من القلوب،
– والاحتراز من المعاصي والذنوب، فإنما العز لأهل التقوى.
– قراءة سير السابقين، وقصص أهل الثبات على الدين، ومواقف العلماء العاملين الشامخين في مواجهة أهل الباطل والظالمين.
– وأخيرا..الاستعانة بالله والضراعة إليه أن يخلص المسلمين من الهزيمة النفسية وشر المنهزمين.
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).