ناشئة الليل

قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾(المزمل: 1 – 9)

أخي الحبيب:

الليل مدرسة الصالحين، وتجارة الرابحين، وشغل العارفين الفاقهين، فيه يخلون بربهم، يبثونه مكنون صدورهم، ويلقون أحمالهم عن كواهلم، وينزلونها بساحته، ويضعونها علي أعتابه، يناجون ربهم ويدعونه، ويبتهلون إليه ويرجونه، يستغيثونه فيغيثهم، ويستجيرون به فيجيرهم، ويحتمون به فيبسط عليهم كنفه، ويدخلهم في حرزه، ويلوذون بجنابه فيجدون فيه الأمان والطمأنينة، يستهدونه فيهديهم، ويسترشدونه فيرشدهم، ويستمدونه فيمدهم، ويستعينونه فيعينهم، ويستنصرونه فينصرهم، ويسألونه فيعطهم سؤلهم.

أخي الحبيب:

ما أعظم مدرسة الليل، تلك التي تربط الأرض بالسماء، وتربط القلوب بعلام الغيوب، وتخرج من الإنسان أفضل ما فيه من أحاسيس ومشاعر، حتي أمنياته لنفسه ولبني الإنسان، تسمو وترتقي في ظل هذه المدرسة، وتتخلص من الأنانية، ومن أسر النظرة القاصرة، واللحظة العابرة، والمكسب الشخصي، والمصلحة المادية، إنها المدرسة التي تصنع الإنسان صناعة جديدة، تطلق روحه من عقال المادة، وتحررها من أسر الشهوات، وتضبط غرائزه الدنيا، وتوجهها الوجهة الصحيحة، وتشد الإنسان إلي المثل الأعلى، وتربطه بالغايات النبيلة والأهداف العظيمة، وتبني فيه الهمة، وتخلق فيه العزيمة والإرادة، وتفجر فيه ينابيع الخير، وبواعث الأمل، وتربي فيه الحس المرهف، والذوق الرفيع، والإحسان بالناس من حوله. وتأمل معي أخي الحبيب حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

أخي الحبيب:

قيام الليل هو قضاء ما تيسر منه في عبادة الله، سواء نصفه، أو ثلثه، أو ربعه، أو ساعة منه، أو حتي لحظات، وفي أي جزء منه، منذ غروب الشمس إلي طلوع الفجر، وسواء بالصلاة، أو تلاوة القرآن، أو ذكر الله مطلقاً، أو بها جميعاً. وقد أثني الله تعالي علي أصحاب مدرسة الليل فقال: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾) السجدة: 16 – 17) قال ابن كثير رحمه الله: “يعني بذلك قيام الليل، وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة”(تفسير القرآن العظيم).

أخي الحبيب: لقد ذكر الحق سبحانه قيام الليل ضمن صفات المتقين التي أوصلتهم إلي الجنة، وأسبغت عليهم وصف الإحسان فقال تعالي: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات: 15 – 18) وتأمل معي أيها الأخ الحبيب تلك المقارنة الربانية الدقيقة بين أصحاب مدرسة الليل وبين غيرهم من الناس لتعلم قدرهم عند ربهم سبحانه: قال عز من قائل: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾)الزمر: 9). وقد أحسن الشاعر في قوله:

يا رجال الليل جدوا رب صوت لا يرد
لا يقـــوم الليــل إلا من له عزم وجــد

أخي الحبيب:

ان الرسول الذي رباه الله سبحانه علي عينه، وأمره أن يقوم الليل، هو المربي الأول في هذه المدرسة، وقد ربي أصحابه فيها كذلك، وهي مدرسة مفتوحة علي الدوام يلتحق بها كل من أراد ذلك منذ افتتحها محمد صلي الله عليه وسلم وتتلمذ فيها الفوج الأول من الغر الميامين من أصحابه وحتي تطوي صفحة الحياة الدنيا، ويقوم الناس لرب العالمين، فهذا رسولنا الكريم يخاطب أمته جميعاً فيقول: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحْرِمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْل» (رواه مسلم)

و عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَام»(رواه الترمذي وصححه الألباني). وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا عبدَ الله! لا تَكُنْ مثلَ فلانٍ، كانَ يقومُ الليلَ فترَك قيامَ الليلِ»(متفق عليه)

وقال صلّى الله عليه وسلّم: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ! لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل»(متفق عليه) قال سالم بن عبد الله بن عمر: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً. وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلَانَ الْكَلَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ » (رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط). وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ – رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ, فَإِنَّكَ مَيِّتٌ, وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ, فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ, فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ, وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزِّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (صححه الحاكم والذهبي والألباني).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم : «من قام بعَشْرِ آيات لم يكتَبْ من الغافلين، ومَنْ قامَ بمئةِ آيةِ كُتِبَ مِن القانتين، ومَنْ قامَ بألفِ آية كُتِبَ من المُقنطِرين» (رواه أبو داوود وحسنه الأرناؤوط). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا نَامَ الْبَارِحَةَ , وَلَمْ يُصَلِّ شَيْئًا حَتَّى أَصْبَحَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْه»(رواه البخاري ومسلم).

أخي الحبيب:

لقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم المثل الأعلى في قيام الليل، وهو رائد هذه المدرسة العظيمة. عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا».

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَسَمِعْتُهُ حِينَ كَبَّرَ قَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ, اللهُ أَكْبَرُ, اللهُ أَكْبَرُ, ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ, ثُمَّ مَضَى, فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا يَخْتِمُهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ , فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا, ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا, ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا, يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ, وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَجَارَ (وفي رواية: تَعَوَّذَ) وَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَنْزِيهٌ للهِ سَبَّحَ ثُمَّ رَكَعَ , فَجَعَلَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ , سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ, سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لِرَبِّيَ الْحَمْدُ, لِرَبِّيَ الْحَمْدُ» وفي رواية: «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى , سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى»فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ، وَكَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «رَبِّي اغْفِرْ لِي , رَبِّي اغْفِرْ لِي» فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, فَقَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ, وَآلَ عِمْرَانَ, وَالنِّسَاءَ, وَالْمَائِدَةَ، وفي رواية: فَمَا صَلَّى إِلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ إِلَى الْغَدَاةِ(رواه البخاري ومسلم).

وقد أحسن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في وصف رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله:

وفينا رســولُ الله يتلو كتــابَه إذا انشق معروفٌ من الصبح ساطعُ
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبُنا به مـوقناتٌ أن مـا قــال واقـــــعُ
يبيت يجافي جنبَه عن فِراشِهِ إذا استثقلت بالمشـركين المضــاجعُ

أخي الحبيب:

لقد سادت أمتنا عندما اهتمت بمدرسة الليل، وتخرجت فيها أجيال رائدة قدمت الخير والنور والمعرفة للعالمين، وسعد بهم كل الناس، وهذه شذرات من سير بعض رجالات هذه الأمة مع قيام الليل.

قال الحسن البصري: “لم أجد شيئاً من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل.

وقال أبو عثمان النهدي: تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا. و

كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، ثم يقول: اللهم إن جهنم لا تدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه.

وكان طاوس يثب من على فراشه، ثم يتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين، وكان زمعة العابد يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرِّسون، أكُل هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون !! فيسمع من هاهنا باكٍ، ومن هاهنا داع، ومن هاهنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى: عند الصباح يحمد القوم السرى” .

قال ابن الجوزي:

“واعلم أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات: الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل الليل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء.

الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر الليل. الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث الليل، قال النبي : «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ»(رواه البخاري)

الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سدس الليل أو خمسه. الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام. الطبقة السادسة: قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين.الطبقة السابعة: قوم يُحيون ما بين العشاءين، ويُعسِّـلون في السحر، فيجمعون بين الطرفين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: « إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً , لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ , يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ , وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ»(رواه مسلم).

أخي الحبيب:

ذكر المربون كثيراً من المعينات علي قيام الليل يمكن إيجازها فيما ذكره المربي الكبير أبو حامد الغزالي رحمه الله حيث قسمها إلي أسباب ظاهرة وأخرى باطنة: وأجمل الأسباب الظاهرة في أربعة: أولها: التقليل والاقتصاد أوالاعتدال والتوسط في الطعام والشراب، وثانيها، تجنب الوصول إلي حالة من الإرهاق الشديد نتيجة العمل المتواصل أثناء النهار، ثالثها أخذ قسط من الراحة في القيلولة، ورابعها، عدم ارتكاب الذنوب والأوزار حتي لا يحرم القيام بسببها، وأما الأسباب الباطنة فأجملها كذلك في أربعة: أولها: سلامة القلب من الحقد والحسد، وثانيها الخوف مع قصر الأمل، وثالثها معرفة فضل قيام الليل، ورابعها وأشرفها حب الله عز وجل(راجع، إحياء علوم الدين).

اللهم يا قريباً ليس ببعيد … بل أقرب إلينا من حبل الوريد … يا من لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير … يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون ولا يخشي الدوائر … يا من لا تواري سماء منك سماء ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره … يا من تسمع كلامنا، وتري مكاننا، ولا يخفي عليك شيء من أمرنا، يا ناصر المظلومين وقاصم الجبارين، يا ربنا ورب كل شيء ومليكه.

اللهم إنا نحمدك المحامد كلها التي حمدت بها نفسك واستأثرت بها في مكنون الغيب عندك، ونحمدك المحامد كلها التي أجريتها بفضلك على ألسنة أنبيائك ورسلك وملائكتك المقربين وعبادك الصالحين في الأولين والآخرين، حمداً لا ينقضي أمده، ولا ينقطع مدده، ولا يحصي عدده، كما نسألك بذاتك العلية أن تصلي وتسلم وتبارك علي خير البرية وجميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وأن ترضي عن أصحابه وآل بيته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهمّ لك الحمد أنت قيّوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق والجنّة حق والنار حق، والنبيين حق، ومحمد حق والساعة حق، اللهمّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت الله لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوّة إلا بك.

اللهم اجعل لي نوراً في قلبي، ونوراً في قبري، ونوراً في سمعي، ونوراً في بصري، ونوراً في لحمي، ونوراً في دمي، ونوراً في عظامي، ونوراً من بين يدي، ونوراً من خلفي، ونوراً عن يميني، ونوراً عن شمالي، ونوراً من فوقي، ونوراً من تحتي، اللهمّ زدني نوراً، وأعطني نوراً، واجعل لي نوراً.

اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلّنا لك، عبد الله لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد… اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهمّ طهّرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهمّ طهّرني من الذنوب والخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم بارك أخوتنا، واحفظ جماعتنا، ووفق للحق قادتنا، وسدد مرشدنا، وثبت رئيسنا، ووحد صفنا، واجمع شملنا، وألف بين قلوبنا، واجعلنا إخوة متحابين متآلفين، ولا تجعل للشيطان بيننا سبيلاً، واسترنا بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك، يا الله يا لطيف يا لطيف.

اللهم استعملنا في طاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا من جندك المخلصين، وعبادك الصالحين، وأقمنا في رضاك حتي نلقاك، ويسر لنا طاعتك، وأعنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا حسن التوكل عليك، ودوام الإقبال عليك، وخذ بأيدينا ونواصينا إليك أخذ الكرام عليك، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين فضلاً منك ورحمة يا أرحم الراحمين.

اللهم استرنا ولا تفضحنا، وارفعنا ولا تضعنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا، وارض عنا وأرضنا، وادفع عنا ولا تدفعنا، ورد عنا ولا تردنا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وارفعنا ولا ترفع علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، ودبر لنا ولا تكلنا إلي تدبير أنفسنا ولا إلي تدبير أحد من خلقك طرفة عين ولا أدني من ذلك.

اللهم تقبل شهداءنا، وارحم موتانا، وداوِ جرحانا، واشفِ مرضانا، واجبر كسرنا، ولم شعثنا، وأصلح شأننا، وفك أسرنا، وأعتق رقابنا، وتقبل أعمالنا، اللهم بدل خوفنا أمناً، وبدل استضعافنا منعة وعزاً، ونصراً وتمكيناً، فإنه لا يذل جارك، ولا يخلف وعدك، ولا يؤودك شيء في السموات ولا في الأرض. يا أكرم الأكرمين.

اللهم أبرم لأمة محمد أمراً رشيداً يعز فيه أهل الحق واجعلنا منهم، ويذل فيه أهل الباطل واجعلنا عليهم، ويؤمر فيه بالمعروف واجعلنا من أهله، وينهي فيه عن المنكر واجعل لنا نصيباً في إنكاره، وينتصف فيه للمظلوم واجعلنا في صفه، ويقتص فيه من الظالم واجعلنا شوكة في حلقه، ويحكم فيه بالقرآن واجعلنا من أهله وخاصته، ويرتفع فيه لواء التوحيد واجعلنا من حرسه وجنده.

اللهم عليك بالطغاة المتجبرين وأعوانهم، اللهم نكس أعلامهم، وبدل أحوالهم، وفل سلاحهم، واقلب تدبيرهم، وأحبط كيدهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، ورد كيدهم إلي نحورهم، وسلاحهم إلي صدورهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واقتلهم بأيديهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم أحصهم عددا، وأهلكهم بددا، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم اقتلع جذورهم، واستأصل شرورهم، اللهم اهدم بنيانهم، وزلزل أركانهم، وأزل سلطانهم، واستخلف الصالحين من بعدهم، إنك علي ما تشاء قدير.

اللهم اجعل كل أوقاتنا في طاعتك، وكل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وإخواننا ومشايخنا وأصحاب الحقوق علينا وللمسلمين أجمعين، وأد عنا ما لم نستطع، واحمل عنا ما عجزنا عنه، واغفر لنا التقصير، وتجاوز عن العثرات، واجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوماً نلقاك فيه يا أرحم الراحمين.