الصبر زاد على طريق الدعوة

سيد قطب

إنَّ طريقَ الدعوة إلى الله عزَّ وجل ليس هيناً ليناً وليس مفروشاً بالزهور والورود والرياحين ولا خالياً من المكذبين والمعاندين والمحاربين ،

ولكنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء ، محفوف بالمخاطر والفتن والابتلاءات ، يدوى فى جنباته عويلُ المجرمين من الكفار والمنافقين

إذْ لو كان سلوك هذا الطريق الكريم سهلاً ليناً لا يكلف عرقاً وروحاً ودماً ‍‍لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ولاختلـطت حينئذ دعوات الحق ودعاوى الباطل!!

إذاً فليس الإيمُان كلمة تُقال باللسان فحسب حقيقة كبيرة ينبغى أن يعيها السالكون والسائرون على طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين والمرسلين – عليهم صلوات الله أجمعين – ونسيان هذه الحقيقة الكبيرة فى أى مرحلة من مراحل هذا الطريق بل وفى أى لحظة من اللحظات قد يعرض لأضرار خطيرة وفتن كبيرة

لأن هناك نموذجاً من الناس يعلن كلمة الإيمان فى وقت الدعة والراحة والرخاء وهو يحسبها خفيفة الحمل هينة المؤونة سهلة التكاليف فإن تعرَّض لفتنة أو محنة أو ابتلاء هلع وجزع وسقط والعياذ بالله ، واختلت فى نفسه القيم واضطربت بين يديه وتزعزعت فى قلبه العقيدة ولقد وصف العليم الخبير هذا الصنف من الناس وصفاً دقيقاً فى قوله جل وعلا : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ )(1)

إنه نموذج متكرر فى كل جيل وحين ، يَزنُ العقيدة والإيمان والالتزام فإن أصابه خير)بميزان الربح والخسارة كأنها صفقة فى أسواق التجارة !! اطمأن به, وقال: إن الإيمان خير فها هو ذا يجلب النفع ، ويدر الضرع وينمى الزرع ويربح التجارة ويكفل الرواج…

وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة, خسر الدنيا بالبلاء الذى أصابه فلم يصبر عليه, ولم يتماسك له ولم يرجع إلى الله فيه وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه وانكفائه عن عقيدته وانتكاسه على الهدى الذى كان ميسراً له, والتعبير القرآن يصوره فى عبادته لله “على حرف” غير متمكن من العقيدة، ولا متثبت فى العبادة يصوره فى حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى ومن ثم ينقلب على وجهه عند مسِّ الفتنة ووقفته ذلك هو الخسران المبين يخسر)المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب ولا ريب الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى إلى جوار خسارة المال أو الولد أو الصحة أو أعراض الحياة الأخرى التى يفتن الله بها عباده ويبتلى بها ثقتهم فيه وصبرهم على بلائه وإخلاصهم أنفسهم له واستعدادهم لقبول قضائه وقدره ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان فياله من خسران !” (2)

فليس الإيمان كلمةَ تقُال باللسان فحسب ولكنَّ الإيمانَ حقيقةُ ذات تكاليف ثقيلة وأمانةً ذات أعباء كبيرة وجهادً كبير يحتاج إلى صبر جميل

“فلا يكفى أن يقول الناس : آمنا وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصُرهم خالصة قلوُبهم كما تفتن النارُ الذهبَ لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به – وهذا هو أصل الكلمة اللغوى وله دلالتهَ وظله وإيحاؤه – وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب وكثيرة من الفتن والمحن والابتلاءات التى يتعرض لها أهل الإيمان على طول الطريق فمنها أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يجد النصير الذى يسانده ويدفع عنه ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ولا يجد القوة التى يواجه بها الطغيان وهذه هى الصورة البارزة للفتنة المعهودة فى الذهن حين تذكر الفتنة ولكنها ليست أعنف صور الفتنة فهناك فتن كثيرة فى صور شتى ربما كانت أمر وأدهى فهناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعاً وقد تعصف الفتنة بالقلوب إذا وقع بأهله وأحبابه البلاء أمام عينيه وبين يديه وهو مشلول الحركة لا يستطيع أن يفعل شيئاً !

– وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير المخدوعة وتتحطم فى طريقهم العوائق وتصاغ لهم الأمجاد وتصفو لهم الحياة فى الوقت الذى يرى المؤمن نفسه مهملاً منكراً غريباً لا يحس به أحد ولا يشعر بقيمة الحق الذى معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يقدرون على شئ حتى ولا عن دفع الأذى عن أنفسهم

– وهناك فتنة من نوع آخر ، نراها بارزة فى هذه الأيام ألا وهى أننا نرى دولاً وأمماً غارقة فى الكفر والرذيلة والانحطاط الأخلاقى المزرى ومع ذلك فهى تعانق كواكب الجوزاء فى الجانب التكنولوجى

ووصلت إلى مرحلة مذهلة من التقدم العلمى وقد يجد الفرد فيها من الرعاية الاهتمام ما يناسب قيمة الإنسان !! وإن كانت عاجزة عن تقديم نموذج إنسانى للقيم النبيلة

– وهناك الفتنة الكبرى ، فتنة النفس والشهوات وجاذبية الأرض وثقلة اللحم والدم والرغبة فى المتاع والسلطان أو فى الدعة والاطمئنان ومشقة الاستقامة على طريق الإيمان والاستواء على مرتقاه مع المعوقات الكثيرة فى ملابسات الحياة وفى منطق البيئة وفى تصورات أهل هذا الزمان!” (3)

– وهناك فتنة الغربة فى الدين والاستيحاش فى العقيدة حتى أضحى المسلم غريباً فى بيئته بين أهله وإخوانه حتى يقول الإمام ابن القيم: بل الإسلام الحق وأصحابه هو اليومَ غربةً منه فى أول ظهوره وإنeالذى كان عليه رسول الله كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة ، فالإسلام الحقيقى غريب جداً وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس ، وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس ، وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات اتباع ورئاسات مناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول ؟!

فإن نفس ما جاء به يضادُّ أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التى هى منتهى فضيلتهم وعملهم والشهوات التى هى غايات مقاصدهم وإراداتهم فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله عن طريق المتابعة غريباً بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحمهم وأعجب كل منهم برأيه ؟!

وفى الحديث عن عبد الله بن مسعود

قال: قال رسول الله: “إنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأt غريباً فطوبى للغرباء قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس”(4)

فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله عز وجل كانت الفتنة أشد وأقسى وكان الابتلاء أصعب وأعنف ولم يثبت إلاَّ من عصمه الله عز وجل فالابتلاء تاريخ طويل وقصة كفاح وتضحيات ضخمة كبيرة منذ اللحظات الأولى لتاريخ بنى الإنسان أجل فما الذى لاقاه نوح عليه السلام ؟

وما الذى لاقاه إبراهيم عليه السلام ؟ وما الذى لاقاه يوسف عليه السلام ؟ وما الذى لاقاه أيوب عليه السلام ؟ وما الذى لاقاه أمام النبيين وسيد المرسلين محمد؟ إنها قصة طويلة بطول الطريق قاسية بقسوة مِحَنِه ، وفتنة شديدة بشدة الابتلاءات والسؤال الذى يقفز إلى أذهان الكثيرين وربما يمنعهم حياؤهم من التصريح به ألا وهو : فما هى الحكمة من كل هذه المحن والفتن والابتلاءات ؟

والذى يجب أن يكون راسخاً فى القلب لا تعصف به الرياح ولا تزعزعه الاهواء أن نعلم يقيناً أنه ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله جلَّ وعلا ، وحاشا لله الرحمن الرحيم أن يعذب أولياءه من المؤمنين بالفتن وأن يؤذيهم بالابتلاءات

“ولكنه الإعداد الحقيقى لتحمل الأمانة فهى فى حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق وإلا بالاستعلاء الحقيقى على الشهوات وإلا بالصبر الحقيقى على الآلام وإلا بالثقة الحقيقة فى نصر الله أو فى ثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء والنفس تصهرها الشدائد فتنفى عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة.

فلا يكفى أن يقول الناس: آمنا وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا الفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).

هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية فى ميزان الله سبحانه: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)

فالفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف لأن الإيمان أمانة الله فى الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة وفى قلوبهم تجرُّد لها وإخلاص لا يحملها إلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة وعلى الأمة والسلامة وعلى المتاع والإغراء ، وإنها لأمانة الخلافة فى الأرض وقيادة الناس إلى طريق الله وتحقيق كلمته فى عالم الحياة.

فهى أمانة كريمة وهى أمانة ثقيلة ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء ولله الحكمة البالغة فإن برزو المجرمين لحرب الدعوات يقوى عودها ويطبعها بطابع الجد الذى يناسب طبيعتها ، وكفاح وجهاد أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلفة هو الذى يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة ، وهو الذى يمحص القائمين عليها ويطرد الزائفين عنها فلا يبقى إلا العناصر القوية المؤمنة المتجردة التى لا تبتغى المغانم ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغى بها وجه الله تعالى مؤثرين دعوتهم على الراحة والمتاع وأعراض الحياة الدنيا بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا فى سبيلها وهؤلاء بجدارة هم أصحاب الأهلية لحمل راية هذه الدعوة والسير بها بين الأشواك والصخور وهم واثقون فيما عند الله تعالى من إحدى الحسنيين ! إما النصر وإما الشهادة”(5)

“وهكذا فإن موكب الدعوة إلى الله الموغل فى القدم الضارب فى شعاب الزمان ماض من الطريق اللاحب ماضٍ فى الخط الواصب مستقيم الخطى ثابت الأقدام يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل يقاومه التابعون من الضالين والمتبوعين ويصيب الأذى من يصيب من الدعاه وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء والموكب فى طريقه لا ينحنى ولا ينثنى ولا ينكص ولا يجيد والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين”(6)

والوصول – أحبتى – إلى هذا المرتقى الكريم يحتاج حتماً إلى زاد الدعوة اللازم لكل مرحلة من مراحل هذا الطريق الطويل الشاق ألا وهو “الصبر الجميل”

أجل لابد من هذا الزاد الذى لا يمكن البتة أن يتحرك موكب الدعوة إلا به حتى لتحتاج نفس محمد – صلى الله عليه وسلم – فى تجردها وانقطاعها للدعوة وفى ثباتها وصلابتها وصفائها وشفافيتها تحتاج نفسُ محمد – صلى الله عليه وسلم – بالرغم من هذا كله إلى هذا التوجيه الربانى الكريم بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة وقطف الثمار فيأمره الله جلًّ وعلا بالصبر فى عشرين موضعاً من القرآن الكريم مرة بصيغة “اصبر” وهى ثمانى عشر واثنتان بصيغة “اصطبر” أما الصبر فقد ورد فى نحو تسعين موضعاً فى القرآن الكريم فهو أكثر خُلق تكرر ذكره فى كتاب الله عز وجل

ولنقرأ معاً بعض هذه الآيات الكريمة: قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)(7) (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)(8) (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(9) (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(10) (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(11) (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(12) (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)(13) (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)(14) (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(15) (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًاً)(16) ثم يأتى الأمر بالصبر بعد النبى إلى الأمة فى آيات كثيرة أيضاً : يقول الله عز وجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(17) (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)(18) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(19) ثم بشر الله عز وجل الصابرين بهذه البشريات الكريمة فقال جل من قائل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(20)

ثم زاد الله كرامة الصابرين فى الجنة بدخول الملائكة للسلام عليهم كما قال عز وجل: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(21)

وبعد هذا التفضيل يجمل الله تعالى كرامة الصابرين فى قوله تعالى: وهو الغنى الكريم : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(22)

ذلكم هو شرف الصبر ولذا جعله النبى – صلبى الله عليه وسلم – خير وأوسع عطاءُ يعطاه العبد من الله جلَّ وعلا

كما فى الحديث الصحيح من حديث أبى سعيد الخدرى وفيه: ” ومن يستعفف يُعُّفهُ الله ومن يستغن يُغنه الله ومن يتصبر يُصبره الله وما أعطى أحدُ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصبر”(23)

وقال: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”(24)

ولكن الصبر الجميل ليس مجرد كلمة ترددها الألسنة مع ضيق الصدر وتململ القلب كلا ، إنما الصبر الجميل :

“هو الصبر المطمئن الذى لا يصاحب السخط ولا القلق ولا الشك فى صدق الوعد صبر الواثق من العاقبة الراضى بقدر الله ، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب كل شئ عنده مما يقع به.

الصبر جميل: هو الترفع على الألم والاستعلاء على الشكوى والثبات على تكاليف الدعوة والتسليم لله عز وجل والاستسلام لما يريد من الأمور والقبول لحكمه والرضى به.

الصبر الجميل: هو الذى يكون ابتغاء وجه الله جل وعلا لا تحرجاً من الناس حتى لا يقولوا جزعوا ولا تجملاً للناس حتى يقولوا صبروا.

الصبر الجميل هو الثبات على طول الطريق دون عجلة أو قنوط ولنقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق ألا وهو أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذى يلاقى ما يلاقى من الأذى والتكذيب والكبر والكنود يقُال له فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ .(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)

أدَّ واجبك وفقط فأما النتائج فليست لك حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق وعيد الله للمتكبرين والمكذبين ليس له أن يعلق به قلبه إنه يعمل وكفى يؤدِّى واجبه ويمضى فالأمر ليس أمره والقضية ليست قضيته – بأبى هو وأمى – ولكن الأمر كله لله والله يفعل به ما يريد.

ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغى أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله فى كل حين فهذا هو حزام النجاة فى خضم الرغائب التى تبدو بريئة فى أول الأمر ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم نعم فإنه من السهل جِّداً على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته فيهجر الناس, إنه عمل مريح, قد يفتأ الغضب ويهدئ الأعصاب, ولكن أين هذه الدعوة ؟

إن الدعوة هى الأصل لا شخص الداعية فليضق صدره, ولكن ليكظم غيظه وليمض فى دعوته, والله أرعى لدعوته وأحفظ فليؤدِّ الداعية واجبه فى كل ظرف وفى كل جو والبقية على الله تعالى والهدى هدى الله عز وجل.

وإن فى قصة ذى النون – عليه السلام – لدرساً لأصحاب الدعوات ينبغى أن يتأمَلوه وأن فى رجعة ذى النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغى أن يتدبروها والقرآن الكريم لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة ، ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلاً لا للنظر المجرد

وفى قصة يونس عليه السلام الذى لم يصبر على تكاليف الرسالة فى لحظة من اللحظات فضاق صدراً بالقوم وألقى عبء الدعوة وذهب مغاضباً ضيق الصدر حرج النفس فأوقعه الله فى الضيق الذى تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين ، ولولا أنه ثاب إلى ربه واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه فما فرَّج الله عنه هذا الضيق

يقول عزَّ من قائل(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(25)

فمن مسه الضر فى فتنة من الفتن وفى ابتلاء من الابتلاءات فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه وقدرته على كشف الضراء وعلى العوض والجزاء فأما من يفقد ثقته فى نصر الله فى الدنيا والآخرة ويقنط من عون الله له فى المحنة حين تشتد المحنة فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء وليذهب بنفسه كل مذهب فما شئ من ذلك بمبدل ما به من البلاء.

من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيـظ.

والذى ييأس فى الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة وكل نسمة رخية وكل رجاء فى الفرج ويستبد به الضيق ويثقل على صدره الكرب فيـزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء إلا أنه لا سبيل فى احتمال البلاء إلا بالرجاء فى نصر الله ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله ولا سبيـل إلى الاستعلاء على الضر والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ومضاعفة الشعور به والعجز عن دفعه بغير عون الله

وأخيراً فإنَّ الذين احتملوا فى الطريق إلى الله ما احتملوا فلم ينكصوا ولم يأسوا الذين صبروا على فتنة الناس وعلى فتنة النفس الذين حملوا أعباءهم وساروا فى ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع أعمالهم ولن ينسى جهادهم إنه تعالى سينظر إليهم من عليائه فيرضيهم وسينظر إلى جهادهم فيه فيهديهم وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(26)

وأما الذين يفتنون المؤمنين ويسومونهم سوء العذاب فما هم أبداً بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش ومهما زاد ظلمهم وانتعش فكما أن الله تعالى جعل الابتلاء سنة جارية ليميز الخبيث من الطيب فقد جعل أخذ الظالمين أيضاً سنة لا تتبدَّل ولا تتخلف فكل هذه القوى بكل ما تملك كمثل)من وسائل التقنية الحديثة ومن وسائل الإبادة والتدمير مثلها: العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون(27)

نعم فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة ؟! أين فرعون الذى قال لقومه: أنا ربكم الأعلى. واستخفهم بقوله: أليس لى ملك مصر وهذه ؟! فأجراها الله من فوقه !!! أين نمرود بن كنعان(الأنهار تجرى من تحتى ؟! أين قارون الذين(أنا أحيى وأميت)الذى قال لإبراهيم – عليه السلام – : ؟! وأين عاد وأين(إنا أوتيته على علم عندى)قال فى خيلاء وكبر واستعلاء: ثمود ؟ وأين أبو جهل وأبو لهب ؟

(فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(28)

فيا أيها الظالمون:

يا أيها المجرمون:

محال أن يموت المظلومون ويبقى الظالمون فاعلموا ما شئتم فإنا عاملون وجورواً فإنَّا إلى الله مستجيرون وأظلموا فإنَّا إلى الله (وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون)متظلمون:

ولله در القائل:

أين الظالمون وأين التابعــون لهم فى الغى بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم فى الورى ظلم وطغيــان؟ أين الجبابرة الطاغون ويحهموا أين من غــــرهم لهو وسلطان ؟ هل أبقى الموت ذا عزٍّ لعزتـه أو هل نجا منه بالأموال إنســـان ؟ لا والذى خلق الأكوان مـــن عدم الكلم يفنى فلا إنـــس ولا جان

فيا أيها الظالمون:

اتقوا دعوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب فإن الله تعالى يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: “وعزتى وجلالى لأنصرنك ولو بعد حين”

فلا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبـه يدعو عليك وعين الله لم تنم

أما أنت :
أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائم بين الأنـام وإن أمهل الله يوماً ظالمـاً فإن أخذه شديد ذى انتقام

فإنَّ نصر الله دائماً وحتماً فى نهاية الطريق وهى سنة لابد منها فى النهاية بموعود الله جلَّ وعلا ولكنها تجئ فى موعدها المحدد من الله جلت حكمته ولا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين الخالصين المخلصين يصابون بالأذى ولا أن المجرمين والظالمين والضالين يقدرون على صب الفتن على رؤوس المؤمنين ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد لله إنما يرغب فى هداية قدمه حباً لهم وخوفاً من عذاب الله فى الدنيا والآخرة لا يعجلها عن مودعها شئ من ذلك كله فإن الله تعالى لا يعجل لعجلة أحد من خلقه ولا مبدل لكلماته سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم أو بالأجل المرسوم

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(30)

وقال عز وجل:

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(31)

هذه هى الحقيقة فى كل دعوة يخلص فيها الجند ويتجرد الدعاة لله عز وجل إنها غالبة منصورة مهما وضعت فى طريقها العراقيل ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار

والمؤمن يتعامل مع وعد الله عز وجل على أنه الحقيقة الواقعة فإذا كان الواقع الصغير فى جيل محدود أو فى رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة فهذا هو الباطل الزائل الذى يوجد فترة فى الأرض لحكمة خاصة

والنصر السريع الهين اللين الذى لا يكلف الدم والروح والعرق سهل أن يفقد وأن يضيع بتلك السهولة أيضاً
وقد يؤخر الله النصر لأن بنية الأمة لم تزل ضعيفة ولم تبذل أقصى ما عندها من استطاعة ولم تصل بعد إلى مستوى الإيمان الذى يكون مقدمة فورية لنصر (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)عاجل:
وقد يؤخر الله النصر لأن الأمة لم تتجرد بعد فى إسلامها وجهادها ودعوتها لله عز وجل فالنصر لم يكن يوماً فى تاريخ الإسلام بالعدد ولا بالعُدد ولا بالزاد إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التى لا تقف لها قوة العباد بعدما يبذل المؤمنون أقصى ما عندهم من أسباب