غربة الروح وغربة الجسد

رضوان الأخرس

من المعلوم أن غربة الجسد هي ابتعاد الإنسان عن موطنه الأصلي ومسقط رأسه وبيته الذي يحوي ذكريات طفولته وأهله وأحبته، أما غربة الروح فهي حاجز تصنعه النفس بين الإنسان ومحيطه حين يعجز عن تحقيق طموحاته في الحياة فيشعر بعدم الاندماج ويميل إلى العزلة والوحدة، حينما يجد أن شعوره غريب وأنه يعيش في صحراء قاحلة من كل الآمال التي كان يسعى إليها ومن كل المشاعر التي كان يرغب بها.

الظروف السياسة التي تعيشها المنطقة العربية قاسية على مواطنيها لكن أكثر من يشعر بهذه القسوة هم الشباب؛ ذلك أنهم موطن الهمة والنشاط، فحينما لا يجد هذا الشاب مسارًا يفرغ فيه طاقته وهمته سيبدو مبتور الهمة مكسور الإرادة تنهشه الحياة من كل ناحية وصوب، ومن أصعب المشاعر التي قد يعيشها الشاب هو شعوره بانعدام قيمته أو انحدارها وضعف ثقته بنفسه حين يجهل نفسه أو يجهلها الآخرون، ولا أقصد الجهل السطحي ولكن الجهل بالقيمة والمشاعر والحاجيات والرغبات فلا يجد الإنسان نفسه ويشعر بظلمٍ معنوي يجعله شديد الانفعال ومتقلب المزاج ويؤثر ذلك على علاقته بمحيطه.

إن كانت الغربة هي وجود الإنسان وحيدًا دون موطنه وأهله وجيرانه فإن ما هو أقسى منها وجود الإنسان وحيدًا دون دور في الحياة، ودون شغف وفرص وأحلام وإنجاز وتقدير، ودون ثقة أيضًا، عدا أن إجراءات السفر والتنقل وتجديد الإقامات والانتظار على شباك الجوازات فيه إرهاق للبدن لا يخلو من امتهان، وفراق الوطن يزرع في الروح حنينًا لا مفر منه وشوقًا لا فكاك عنه، إلا أنه هذا يرهق البدن أكثر من كونه يرهق الروح ويا بؤس وتعس إنسان اغترب فوجد غربة البدن وغربة الروح.

إن الإنسان من دون رسالة ولا غاية في الحياة كسفينة دون ربان وكمسافر دون محطة وصول، لذلك حامل الغاية المؤمن بالرسالة أقل شعورًا بالغربة من الشخص الفارغ.
فقد يخرج الإنسان باحثًا عن ملاذ روحه فلا يجده وحينها يفقد ملاذ الجسد والروح، وحينها تفعل الغربة في النفس ما لا تفعله كل الجروح، والناس في فكرتهم نحو الحياة فئتان الناس بينهما مراتب، وهما كما ذكرهما القرآن فئة من يريد الدنيا وفئة من يريد الآخرة.

أما من يريد الدنيا إن وصل إلى غاياته ووجد ملذات النفس دون أي اكتراث بمآله وآخرته فإنه يعيش غربة روحٍ من نوعٍ جديد قد تكون أقسى من سابقتها، تورثه قلقًا واضطرابًا لا ينقطعان، وهي الغربة الروحية وخواء الجسد من الفكر والهوية وتشوش التفكير، فيمضى في الحياة متخبطًًا دون هدفٍ ولا رسالة كضائعٍ في الحياة بصحراء من التيه، تظل روحه تسبح دون ملاذ فتدوم عنده الحيرة، وتعطيه الملذات دقائق نشوة وتورثه ساعات حسرة، فهو إن لم يتحلى بالقناعة والرضا لن يجد الطمأنينة والسكون ويظل ساخطا ظَمِئً حتى يموت، وقد يتعجل الموت قبل أوانه ومن هنا تكثر أسباب الانتحار لدى الغربيين الذين انهمكوا في المادة وأهملوا الروح.

وهناك من يريد الآخرة زاهدًا في الدنيا وما فيها أو راغبًا وساعيًا لبعض النصيب منها أو الكثير، والناس في ذلك درجات، لكنها بالعادة تكون في يد المؤمن لا في قلبه، يريد من رزق الدنيا ما يعينه على أداء رسالته في الحياة بعمارتها وخلافتها بالخير وإصلاحها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا بدفع باطلٍ أو إحقاق حق، وهذا إن جعل الله غاية كل أعماله وآماله فيهون عليه بعدها كل تعثر وفشل، ويعظم في نفسه كل نجاح وعمل، فمن وجد في الله أنسه ما ذاق طعم الوحشة قط ومن كان الله ملاذه ما ذاق طعم الغربة، ومن كانت الآخرة همه والقناعة بستان صدره ما ذاق طعم الفقر.

إن الإنسان من دون رسالة ولا غاية في الحياة كسفينة دون ربان وكمسافر دون محطة وصول، لذلك حامل الغاية المؤمن بالرسالة أقل شعورًا بالغربة من الفارغ الذي لن تُملأ روحه ولن يستقر كيانه مهما تنقل ومهما فعل؛ ذاك أن العمل للرسالة والشغف بالغاية يشغله ويهون عليه المصاب ويذكره بالمآب فلا يدوم الحزن عنده ولا يطول اليأس، فتجد الحياة عنده ميدان كفاحٍ يناضل فيه من أجل أن يخلد بهدوء لحظة النوم الطويل وأنبل الناس في ذلك الشهداء، أما من أدار نفسه عن هذا الفهم فليله طويل ونومه ثقيل وزاده قليل وفرحه عابر وحزنه آسر وفكره قاصر ونفسهُ ناقصةٌ متكبرة وتُكابِر، غربته دائمة وفكره مشتت وروحه تائهة وليس بعد ذلك تشتت ولا غربة ولا ضياعٌ أو تيه.